الحكم بتسويغ بيع الوقف ( تحرير الوقف ) مدونة الأستاذ الدكتور عبدالمؤمن شجاع الدين

 

الحكم بتسويغ بيع الوقف (تحرير الوقف)

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

الوقف مال الله الذي لا يباع ولا يشترى حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وتتعلق بأموال الوقف قربات ومبرات ومصارف شرعية حددها الواقفون في وقفياتهم، ولغرض وفاء أموال الوقف بأغراض الواقفين وزيادة مواردها فان قانون الوقف قد اجاز بيع الوقف وفقا لشروط وضوابط معينة سيرد ذكرها لاحقا وكذلك الحال اذا انقطع مصرف الوقف أو تحرير وقف القراءة أو الوقف على الحضرات وقبور الاولياء والصالحين(الوقف الاهلي القديم)، ولخطورة بيع الوقف اوتحريره عن طريق تحويله إلى مال حر قابل للبيع والشراء فقد اشترط الفقه الإسلامي وقانون الوقف ان يسبق تحرير الوقف أو بيعه تسويغ الحاكم الشرعي(القاضي الشرعي) عن طريق المحكمة المختصة التي تتحقق من الاسانيد والمقتضيات التي استدعت بيع الوقف وتحريره ، وقد اشار الحكم محل تعليقنا إلى تسويغ بيع الوقف، وهذا الحكم هو الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 25/11/2018م في الطعن رقم (60492)، وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان ناظر او متولي الوقف الخيري الخاص وهو وقف على مسجد تقدم الى المحكمة الابتدائية المختصة طالبا منها الحكم بتسويغ بيع جزء من رهق الأرض الزراعية الموقوفة على مسجد لارتفاع ثمن الرهق وانعدام العائد منه على ان يقوم لاحقا بشراء مال للوقف أصبح وانفع عوضاً حتى تكون عائدات البديل اكثر فتلبي احتياجات المسجد، وبالفعل صدر الحكم بتسويغ بيت جزء من الرهق المشار اليه، فقام متولي الوقف ببيع ذلك الجزء ثم قام المشتري ببيعه إلى غيره الذي نازعه اخرون على أساس ان البيع باطل لان الأرض المبيعة وقف للمسجد وانه لا يجوز التسويغ ببيع الوقف الا باذن من هيئة الاوقاف حتى ولو كان الوقف خاص طالما ان الوقف خيري على مسجد، وقد توصلت المحكمة الابتدائية إلى الحكم بإبطال التصرف في أرض الوقف لعدم وجود اذن من هيئة الأوقاف ولعدم تمثيل هيئة الاوقاف في حكم التسويغ، فقام المشتري الاخير لأرض الوقف باستئناف الحكم حيث قبلت الشعبة الاستئناف وقضت بجواز بيع ارض الوقف في هذه الحالة بموجب حكم التسويغ وانه لا دخل لوزارة الأوقاف لان البائع متولي الوقف الخاص هو الناظر بحكم الوقفية من اسلافه وان حكم التسويغ قد حدد ان البيع للوقف سيكون بمثابة ابدال للوقف الى ماهو انفع منه حسبما ورد في اسباب الحكم الاستئنافي، فقام  الخصوم من الطرف الاخر بالطعن بالنقض،غير ان الدائرة المدنية أقرت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا (فقد تبين للدائرة ان مناعي الطاعنين مردودة بما عللت به الشعبة حكمها من ان الحكم الابتدائي قد جانب الصواب لرفضه دعوى المستأنف المطعون ضده لتسويغ البيع اليه بموجب حكم التسويغ لبيع الوقف بالحكم الصادر من المحكمة ذاتها التي تنظر النزاع وذلك لتبديل الوقف الى ماهو اصلح له وبموجب ذلك الحكم صدر البيع من المتولي على الوقف وهو ممثل أهل مصرف الوقف وذلك وفقاً لما ورد في المواد (46 و 60 و 61) من قانون الوقف وانه يلزم متابعة متولي الوقف البائع في تنفيذ التزامه بشراء بديل لأرض الوقف) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول : ماهية الحكم بتسويغ بيع الوقف :

ورد مصطلح التسويغ ببيع الوقف في الحكم محل تعليقنا، وكذلك فقد ورد هذا المصطلح في كتابات المؤلفين المعاصرين في الوقف والاوقاف، والمقصود بهذا المصطلح هو صدور حكم من المحكمة المختصة بقبول طلب بيع الوقف، ويستعمل مصطلح (التسويغ ) لان الحكم ببيع الوقف أو تحريره يحتاج إلى مسوغات واسانيد شرعية وقانونية لصدوره أي ان الحكم بقبول  طلب بيع الوقف لا يصدر الا اذا توفرت المسوغات الشرعية لطلب البيع ومن ثم صدور الحكم بعد تأكد القاضي من وجود تلك المسوغات أو الاسانيد الشرعية والواقعية اللازمة والتأكد من صحتها.

الوجه الثاني : مسوغات الحكم ببيع الوقف أو تحريره :

حدد قانون الوقف الشرعي هذه المسوغات وهي الحالات التي يسوغ او يجوز فيها بيع الوقف أو تحريره، ويمكن تلخيصها على النحو الاتي :

الحالة الأولى : بيع بعض الوقف لإصلاح بعضه الاخر : فاذا تلف بعض الوقف فانه يجوز بيع بعضه لإصلاح بعضه الاخر اذا لم يكن هناك فائض من الأوقاف الاخرى، وفي هذا الشأن نصت المادة (58) من قانون الوقف على انه (اذا لم تكن غلة الوقف كافية لإصلاح ما تلف من الوقف فيجوز بيع بعضه لإصلاح البعض الآخر منه اذا لم يكن هناك فائض من غلات أوقاف أخرى).

الحالة الثانية : بيع الوقف اذا بطل نفعه أو نقصت غلته : وفي هذا الشأن نصت المادة (60) وقف على أنه (اذا بطل نفع الوقف في المقصود أو نقصت غلته بالقياس إلى قيمته بحيث لا يفي بغرض الواقف جاز بيعه بما لا يقل عن مثل قيمته حراً زماناً ومكاناً والاستعاضة عنه بما ينفع في المقصود او يغل اكثر مع تحقق المصلحة بعد موافقة المجلس الأعلى للأوقاف وصدور حكم شرعي بذلك) وهذه الحالة هي التي استند اليها الحكم محل تعليقنا، إلا أنه من الملاحظ في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا ان مجلس الأوقاف لم يوافق على ذلك، وقد سبب الحكم لذلك بان الوقف ليس تابع لهيئة الأوقاف وإنما وقف خاص يتولاه ذرية الواقف، ومن وجهة نظرنا انه كان يجب الحصول على اذن الأوقاف لان الوقف في هذه الحالة ليس وقفاً ذرياً وإنما وقفاً خيرياً على مسجد، فالأوقاف هي المشرفة على هذه الأوقاف وان لم تتول نظارتها،بل أن  القانون قد اشترط موافقة الاوقاف في كل حالة من حالات بيع الوقف أو تحريره من غير تفرقة بين الوقف الخاص والوقف العام.

الحالة الثالثة : نقض الوقف الأهلي القديم أو تحريره : والمقصود به هو وقف القراءة اوالدرس لروح الواقف وكذا الوقف على الحضرات وقبور الاولياء والصالحين  حيث نصت المادتان (46 و 47) من قانون الوقف على جواز نقض الوقف القديم الذي لا يتفق مع قانون الوقف النافذ اذا تراضى أهل المصرف على ذلك شريطة ان يتم ذلك بناءً على إذن من هيئة الأوقاف وان يصدر بذلك حكم من المحكمة المختصة وبعد الحكم بنقض الوقف في هذه الحالة يتم تقسيم الوقف بين أهل المصرف كل بحسب قدر استحقاقه الحالي، فيصير الوقف في هذه الحالة مثل المال الحر فيباع ويشترى لزوال صفة الوقف عنه بنقضه،ولاريب أن لنقض الوقف في هذه الحالة عواقب ومخاطر كثيرة سبق لنا التعليق عليها بتعليق مستقل بعنوان ( إشكالية تحرير الوقف الخاص في اليمن) وهو منشور في قناتنا على التيليغرام.

الوجه الثالث : مسوغات الحكم ببيع الوقف واجراءاته :

لصدور حكم التسويغ ببيع الوقف فانه من اللازم تقديم طلب الى المحكمة المختصة مكانياً التي يقع في نطاق اختصاصها المكاني المال المطلوب بيعه او تحريره،  وينبغي أن يتضمن هذا الطلب الاسباب التي استدعت بيع الوقف وان يتضمن النصوص القانونية والشرعية وان تذكر في الطلب الادلة الواقعية والقانونية الساندة والمؤيدة للطلب، كما ينبغي ان ترفق بمذكرة الطلب المستندات المؤيدة للطلب، وينبغي أن يتم تقديم الطلب من هيئة الأوقاف في حالتي بيع بعض الوقف لاصلاح بعضه وبيع الوقف إذا بطلت منفعته أو قلت غلته، أما في حالة طلب نقض الوقف الاهلي القديم  فيجب ان تتوفر في الطالب لحكم التسويغ في هذه الحالة شروط المدعي ومن اهمها الصفة والمصلحة حيث تتوفر هذه الشروط في متولي الوقف الأهلي (الناظر) باعتباره الممثل القانوني للوقف الأهلي، وفي كل حالات طلب بيع الوقف أو تحريره ينبغي ان تكون هيئة الأوقاف ممثلة في إجراءات نظر طلب التسويغ كما ينبغي ان يتم التحقق من وجود الاذن الصادر من هيئة الأوقاف سواء بالنسبة لبيع الوقف أو نقض الوقف الأهلي لان القانون قد اشترط موافقة وإذن هيئة الأوقاف في كل الحالات، وقد اشترط القانون صدور حكم بتسويغ بيع الوقف أو نقضه لخطورة هذين الإجرائين حتى يتحقق القضاء من صحة الطلب بيع الوقف ونقضه وسلامة الإجراءات اللازمة لذلك، لان القضاء هو الأكثر عدالة وجدارة للقيام بهذه المهمة الجسيمة والخطيرة، ولايجوز بيع الوقف أو نقضه الا بعد صدور حكم التسويغ، والحكم بتسويغ بيع الوقف او نقضه يقبل الطعن فيه بالاستئناف والنقض كما يقبل التماس إعادة النظر فيه ،فهو يقبل الطعن بطرق الطعن العادية وغير العادية، لأن طرق الطعن  من اهم الضمانات القضائية لحفظ الحقوق والمصالح ومن ذلك حفظ حقوق الوقف ومصالحه من اطماع الطامعين ببيعه او نقضه لمأرب خاصة أو شخصية، والله اعلم.

الاسعدي للطباعة ت : 772877717