الفرق بين الدلالة والسعاية
أ.د.عبد المؤمن شجاع
الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء
تناولنا
السعاية في تعليق سابق من حيث تقديرها وضوابط ذلك والتجاوزات والمخالفات التي
ترافق تطبيقها في القانون والواقع، ولكن ذلك التعليق لم يتناول الفرق بين السعاية
والدلالة والتكييف القانوني للسعاية وهل
التزام بتحقيق نتيجة ام بذل عناية وكذا التكييف القانوني للاتفاق على السعاية
وتحديد الشخص الذي يدفع السعاية على خلاف
النص القانوني ؛فهذه المسائل وغيرها تثير إشكاليات وخلافات كثيرة في الواقع
العملي، ولذلك فهي تحتاج إلى الإشارة إليها وتسليط الضوء عليها وتقديم التوصية
المناسبة لتجاوز هذه الإشكاليات، ومن هذا المنطلق جاءت فكرة التعليق على الحكم
الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 22/2/2011م
في الطعن المدني رقم (42035) لسنة 1432هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا
الحكم أن أحد الأشخاص أراد شراء أرضية فقام بايداع جزء من ثمن الارض لدى شخص
اخر حتى استكمال اجراءات تسجيل وثائق البايع في السجل العقاري وبعدها
يتم البيع ؛ فلا يسلم هذا الشخص المبلغ
إلا إذا تمت عملية البيع؛ بالاضافة الى ذلك فقد تم الاتفاق فيما بين مالك الارض وااشخص طالب الشراء
والدلال أو الساعي على أن يتحمل السعاية الطرف الذي سيتراجع عن عملية البيع، وبعد ان طالت اجراءات تسجيل الوثائق في السجل
العقاري من قبل مالك الارض طلب الشخص الراغب بالشراء من الساعي ان يذهب الشخص الذي
لديه المبلغ فيسحبه ويعيده الى الراغب كاملا
إلا أن الساعي أعاد للراغب بالشراء المبلغ بعد خصم جزء منه على أساس أنها
سعايته بحسب الاتفاق على أن المتراجع عن البيع يتحمل السعاية، وحينئذ حدث الخلاف
فيما بين المشتري المتراجع وبين الساعي، فقام المشتري المتراجع برفع دعواه أمام
المحكمة الابتدائية مطالباً لها بإلزام الساعي بإعادة المبلغ الذي خصمه، فرد
الساعي المدعى عليه بأن البيع قد تم ولم يبق إلا مصادقة الجهات المختصة على وثائق
المالك وان ذلك لايعني ان البيع لم يتم ، وقد خلصت المحكمة الابتدائية إلى الحكم بقبول
دعوى المدعي وإلزام المدعى عليه بإعادة المبلغ المدعى به وقدره عشرة الآف ريال
سعودي ومبلغ خمسين ألف ريال يمني أتعاب
محاماة ؛وقد جاء في أسباب الحكم الابتدائي: (وحيث لم يقدم المدعى عليه دليلاً يثبت
وقوع البيع وحيث نصت المادة (558) مدني على أن الدلال يستحق أجرة الدلالة اذا أتم
البيع سواء أتم البيع بنفسه أو بإذن البائع ويكون ذلك بحسب العرف لذلك وعملاً
بأحكام الشريعة الإسلامية واستناداً للمادتين (558و559) مدني فأن المحكمة تحكم بقبول
الدعوى) فلم يقبل الساعي أو الدلال بالحكم الابتدائي فقام باستئناف الحكم الابتدائي أمام محكمة الاستئناف التي
رفضت الطعن وايدت الحكم الابتدائي، وقد جاء ضمن اسباب الحكم الاستئنافي (أنه من
خلال مطالعة مدونة الحكم الابتدائي فقد وجدت الشعبة أن المادة (521) مدني قد حملت
البائع والمشتري الالتزامات الناجمة عن
حصول العقد المستوفي لشروطه واركانه المنصوص عليها في المواد (556و557و558) مدني
ومنها الالتزام بأجرة الدلال ولذلك فأن الشعبة توافق على ما ورد في الحكم الابتدائي) ايضاً لم يقبل الساعي
بالحكم الاستئنافي فقام بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي امام المحكمة العليا
التي قبلت استئنافه ونقضت الحكم الاستئنافي؛ وقد جاء ضمن أسباب حكم المحكمة العليا
(انه برجوع الدائرة الى أوراق القضية فقد
وجدت ان الاتفاق الذي اثاره الطاعن في طعنه والذي تضمن ان المدعي قد اودع عربون من
قيمة الأرض حتى وصول البايع بعد العيد لإكمال
تعميد الاوراق في السجل العقاري وغيره وتحرير مبايعة رسمية في المحكمة فإذا لم يقم البائع بتعميد الاوراق
في السجل العقاري و غيره فاذا لم يقم
البائع بتعميد الاوراق يجب عليه ارجاع المبلغ إلى المشتري كما ورد في ادنى ذلك المحرر ملاحظة تتضمن: اذا
اختلف البائع او المشتري فيتحمل الدلالة كاملة وحيث ان الطاعن قد تمسك بهذا المحرر وحيث
انه اذا حدث خلاف بين الاطراف يتم الرجوع الى ذلك الاتفاق او العقد لحل هذه هذا
الخلاف لأن العقد شريعةالمتعاقدين ولذلك فأن المحكمة الابتدائية والمحكمة
الاستئنافية أغفلتا النظر في هذا المحرر الذي يقرر بانه اذا تخلف البائع او
المشتري عن البيع فيتحمل الدلالة كاملة،
فالدلالة يتحملها المشتري لأنه الذي تخلف
عن البيع علماً بأن هذا الاتفاق ملزم ولا يجوز لاطرافه مخالفته فهو ملزم لهم ، ولذلك
فأن ما ذكره الطاعن في هذا الشأن في محله حيث يستند الى المادة (559) مدني وحيث ان
المحكمة الابتدائية والمحكمة الاستئنافية
التي ايدت الحكم الابتدائي قد اغفلتا النظر في هذا الاتفاق والفصل فيه وفقاً للشرع
والقانون فذلك قصور في الحكم، لأن استناده الى المادة (521) مدني في قضائه ليس
كافياً في حمل قضائه لعدم نظر محكمةالموضوع في العقد المشار اليه) وسيكون تعليقنا
على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الآتية:
الوجه الأول : المبالغة في السعاية سبب النزاع :
من خلال مطالعه الحكم محل تعليقنا نجد أن سبب
الخلاف هو المجازفة والمبالغة في تقدير السعاية، حيث قام الدلال او الساعي بخصم
مبلغ عشرة ألف ريال سعودي وهو مبلغ كبير قياساً بالجهد المبذول وبقيمة الارض
المطلوب بيعها ؛ فلو كان الساعي قد اخذ السعاية الشرعية والقانونية على قدر السعي الذي بذله لما حدث الخلاف، إضافة
الى ان الساعي قد قام بتقدير سعايته من تلقاء نفسه، وقد سبق لنا التوصية بوجوب
تعديل المادة (558) مدني التي قررت أن تقدير أجرة الدلال أو الساعي تكون بحسب العرف
أي عرف الدلالين والسماسرة الذين يجازفون ويبالغون في تقدير السعاية حيث نصت هذه
المادة على أن (اجره الدلال أن باع العين بنفسه وبإذن صاحبها على البائع ويعتبر
العرف أن سعى بين البائع والمشتري وباع المالك بنفسه) حيث ذكرنا في توصيتنا بانه
يتوجب تعديل المادة المشار اليها إلى الصيغة الاتية (وان سعى بين البائع والمشتري
وباع المالك بنفسه فيتم تقدير سعايته بحسب
السعي الذي بذله)
الوجه الثاني : الفرق بين الدلالة والسعاية :
من خلال
استقراء المادة(558) مدني السابق ذكرها نجد انها قد فرقت بين الدلال والساعي أو
بين الدلالة والسعاية حيث نصت هذه المادة على أن (إجرة الدلال أن باع العين بنفسه
وبإذن صاحبها على البائع ويعتبر العرف أن سعى بين البائع والمشتري وباع المالك
بنفسه) فمن خلال مطالعة هذا النص يظهر
الفرق بين الدلال والساعي ويمكن بيان ذلك كما ياتي :
اولا: الدلال
: من خلال مطالعة النص السابق نجد ان
الدلال يختلف عن الساعي لان الدلال يقوم
مقام المالك البائع حيث يقوم الدلال ببيع العين بنفسه او بناءً على إذن من المالك أي
أن الدلال يتولى بنفسه عملية البيع فيكون الدلال بمثابة الوكيل عن البائع ومن
خلال مطالعة النص نجد إيضاً ان النص قرر ان إجرة الدلال تكون على المالك
البائع ولكن النص لم يشر إلى كيفية تقدير اجرته وترك ذلك للاتفاق فيما
بين المالك والدلال ؛ لأن المالك لا يسند
الى الدلال مباشرة البيع بنفسه إلا والثقة والعلاقة قوية فيما بين المالك والدلال
ولذلك فهما الاجدر بالاتفاق على تقدير إجرة الدلال فمن المتوقع عدم
حدوث خلاف بينهمابشان هذه المسالة حتى يتدخل القانون للحيلولة دون حدوث ذلك
؛ وفعلاً يكون الخلاف فيما بين المالك والدلال نادراً.
ثانيا : الساعي :
عند التأمل في النص السابق نجد أن الساعي هو الذي لا يقوم بالبيع نيابة عن المالك
او بإذنه وإنما يقتصر دوره على التوفيق بين الطرفين البائع والمشتري وقد اطلق عليه النص القانوني
والعرف الوضعي مصطلح خاص به وهو الساعي واطلق على عمله اسم مخصوص وهو السعاية كما قرر النص القانوني ذاته أن سعايته
أو مقدارها يتم تحديدها في ضوء ما تعارف عليه الناس مع تحفظنا على هذه
العبارة للأسباب السابق ذكرها في الوجه الاول وفي تعليقنا السابق على تقدير السعاية
في القانون اليمني، وقد وردت في الحكم محل
تعليقنا مصطلحات (الدلالة والسعاية) حيث ان محكمة الموضوع تراوحت في تكييفها للواقعة هل هي دلالة
ام سعاية؟.
الوجه الثالث : تكييف الحكم محل تعليقنا للقضية فيما بين (السعاية والدلالة) :
سبق
القول بأن الحكم محل تعليقنا وتحديداً اسباب ومنطوق حكم محكمة الموضوع الذي استعمل
مصطلح (السعاية والدلالة ) بالترادف والتناوب وكأن المصطلحين مترادفين، علماً بأن
غالبية المعنيين لا يفرقوا بين السعاية
والدلالة، ولهذه الغايةاخترنا التعليق على هذا الحكم اسهاماً في استقرار الفرق بين
السعاية والدلالة في أذهان المعنيين، وعند النظر في وقائع القضية التي تناولها
الحكم محل تعليقنا نجد أننا بصدد سعاية
وليس دلالة ؛ لأن الساعي في هذه القضية كان دوره مقتصراً على التوفيق ما بين
البائع والمشتري والسعي بينهما لإتمام البيع فلم يكن نائباً عن المالك البائع
حسبما ذكر النص القانوني السابق.
الوجه الرابع : نوع التزام الساعي بذل عناية ام تحقيق نتيجة :
طبيعة عمل الساعي وهي التوفيق بين البائع
والمشتري ومن هذه الزاوية يمكن تكييفها على أنها من قبيل الالتزام ببذل عناية فقد
يفلح الساعي في مساعيه وقد لا يفلح في مساعيه فهو يستحق السعاية طالما قد بذل المساعي
المعتادة التي يبذلها الحريص، إلا أن صياغة النصوص القانونية ذات الصلة بالموضوع
السابق ذكرها والتطبيق العملي والقضائي يقرر ان التزام الساعي هو من قبيل تحقيق نتيجة وليس من قبيل بذل عناية
وهذا هو الصحيح، ولذلك فقد حكمت محكمتا الموضوع على الساعي في القضية التي تناولها
الحكم محل تعليقنا ان يعيد المبلغ الذي خصمه كسعايةلأنه لا يستحق سعاية لأن البيع
والشراء لم يتم وتبعاً لذلك فأنه لم يحقق النتيجة المقصودة، حتى ان الساعي نفسه لم
يكن يطالب بالسعاية على اساس سعيه ذاته وإنما على اساس الاتفاق الذي تم بين
الاطراف حسبما ورد في اسباب حكم المحكمة العليا بل أن المحكمة العليا ذاتها لم
تنقض الحكم الاستئنافي على اساس استحقاق الساعي للسعاية بموجب النص القانوني
السابق ذكره وانما على اساس ان محكمة الموضوع لم تناقش محرر الاتفاق الذي اثاره الساعي واستند اليه في
مطالبته بالسعاية لان هذا الاتفاق يقرر استحقاقه للسعاية حتى ولو لم يتم البيع لان
ذلك المحرر قد تضمن استحقاقه للسعاية في حالة تراجع المالك للارض او الراغب
بالشراء عن المضي في البيع اي حتي ولو لم يتم البيع؛وقد المح حكم المحكمة العليا
الى جواز ذلك طالما وهناك اتفاق على ذلك ؛ لان النصوص القانونية التي قررت ان
استحقاق الساعي للسعاية لايكون الا اذا تم البيع ليست امرة وانما مكملة يجوز
الاتفاق على خلافها.
الوجه الخامس : تقرير الدلالة والسعاية في القانون بين الوجوب والتكميل :
ذكرنا في
الاوجه السابقة أن المادة(558) مدني قد قررت ان الدلالة تكون على البائع وان
السعاية بحسب الاتفاق فيما بين البائع والمشتري والساعي، وقد أشار الحكم محل
تعليقناالى أن هذا النص القانوني ليس أمرا ولذلك يجوزً الاتفاق على خلافه فيجوز أن
يتحملها المشتري مثلما حاول الساعي في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا،
وهذا التسبيب صحيح يوافق المادة (559) مدني التي اجازت للأطراف الاتفاق على خلاف
ما ورد في (558) السابق ذكرها وفي هذا المعنى نصت المادة (559) مدني على أنه (في
الاحوال المبينة في المواد الثلاث السابقة يتبع ما يتفق عليه المتعاقدان وأن خالف
الاتفاق أحكامها).
الوجه السادس : السعاية والشرط الجزائي :
الشرط
الجزائي وظيفته حمل الملتزم على الوفاء بالتزامه فتبعاً لذلك فلا يكون هدفاً أو غاية
بحد ذاته ولذلك يتحرج القضاء عند الحكم
على وفق ما ورد في الشرط الجزائي، إما في الشريعة الإسلامية فأن لها موقف قوى من
الشرط الجزائي فلا تبيحه إلا إذا كانت المبالغ التي يتضمنها الشرط الجزائي مساوية
للضرر الذي لحق فعلا بالمشترط، وعند مطالعة للحكم محل تعليقنا نجد أنه قد أشار إلى
المحرر الذي يتمسك به الساعي في حين أن صيغة الاتفاق على السعاية حسبما ورد في ذلك
المحرر توحي على انه من قبيل الشرط الجزائي (ومن يتخلف عن اتمام البيع يتحمل السعاية)
ولذلك فأن قضاء المحكمة العليا لا يعني
انها قبلت الحكم بالشرط الجزائي وانما هي ارشدت محكمة الموضوع لبحث هذا المحرر ومناقشته
وفقاً للسلطة التقديرية لمحكمة الموضوع التي ينبغي عليها ان تبحث هذه المسالة حتى
تتأكد مما اذا الباعث على الشرط حمل المالك والراغب بالشراء على استكمال البيع ام
ان الباعث كان احتفاظ الساعي بمقابل الجهد الذي بذله حتى ولو ام يتم البيع، والله
اعلم.