الدفع بسقوط الدين بالتقادم إقرار بوجوده

 

الدفع بسقوط الدين بالتقادم إقرار بوجوده

 

أ.د.عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون والمعهد العالي للقضاء

الحكم محل تعليقنا هو الحكم الصادر بتاريخ 10/3/2007م عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا باليمن في الطعن المدني رقم(26530) لسنة 1427هـ، وخلاصته أنه (بعد إطلاع الدائرة على عريضة الطعن بالنقض والرد عليها وبعد الإطلاع على الحكمين الإبتدائي والإستئنافي فقد تبين أن الطعن خال من أية حالة من حالات الطعن بالنقض المنصوص عليها في المادة(292) مرافعات كما أنه قد تبين للدائرة أن الطاعن معترف بالدين ضمنياً من خلال دفعه بسقوط الحق بالتقادم وأن سند الدين لم يكن محدداً بأجل معين، وبعد المداولة وعملاً بالمادتين 299و300 مرافعات فقد حكمت الدائرة برفض الطعن موضوعاً وإقرار  الحكم المطعون فيه الصادر من الشعبة المدنية بمحكمة استئناف (....) ومصادرة الكفالة على الطاعن للخزينة العامة وإلزامه بدفع عشرة الآف ريالاً لغريمه مقابل مصاريف التقاضي أمام المحكمة العليا) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب الأوجه الآتية:

الوجه الأول : النظرة الشرعية للحق المتقادم :

نظر الحكم محل تعليقنا إلى الدفع بتقادم الحق على أنه إقرار بثبوت هذا الحق في ذمة المدين الدافع ، وذلك يقتضي الإشارة بإيجاز إلى نظرة الشريعة الإسلامية  إلى الحق المتقادم لأهمية ذلك في معرفة وجهة الحكم محل التعليق، فالأصل في جميع الشرائع السماوية ومنها الشريعة الإسلامية هو عدم فوات الحق بمرور الزمن، وقد اعتمد بعض الفقه الإسلامي التقادم تأسيساً على ان التقادم مانع لسماع الدعوى بالحق الذي مضى عليه الزمن ولم يعتمده على أساس انه مسقط للحق الذي مضى عليه الزمن، فمرور الزمن في الشريعة الإسلامية لا يعطي حقاً للمدين بالحق ولا يعفيه من هذا الحق مهما طال الزمن فقد قال النبي صلى الله عليه واله وسلم (لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم) فالحرام لا يصبح حلالاً بمرور الزمن، فأصل الحق باق في ذمة المدين ويجب عليه ديانةً وقضاءً الوفاء به، وتأسيساً على ذلك لو أقر المدين بالدين أو الحق لا أنهدم التقادم ولتعين سماع الدعوى، وعلى هذا الأساس فإن الحكم محل تعليقنا اعتبر دفع المدين بتقادم الدين الذي عليه إقراراً ضمنياً بثبوت الدين بذمته.

الوجه الثاني: الإقرار الضمني بالحق:

الإقرار بالحق إما أن يكون صريحاً أو ضمنياً، فالإقرار الصريح يكون بالقول أو الكتابة أو الإشارة المفهمة بأن الحق موجود لديه أو أنه مدين بالحق والإقرار الصريح ليس في مرتبة واحدة، فمثلاً قد يقر الشخص صراحة بوجود الحق بذمته ولكنه لا يذكر مقداره أو صفاته وعلاماته وسبب نشوء الحق، وهذا الإقرار يسمى الصريح المجمل وهناك الإقرار المفصل وهو الذي يتضمن تفاصيل الحق السابق الإشارة إليها، أما الإقرار الضمني فهو الذي لا يصرح فيه الشخص بوجود الحق بذمته وإنما يرد ذلك الإقرار ضمناً سواء في قوله أو فعله مثل أن يقول الشخص: أنه قد أعاد الحق إلى صاحبه أو سدد الدين أو أن الحق قد تلف أو هلك أو أن الحق قد تقادم ولا يحق للمدين المطالبة به بعد مضي المدة، وقد اعتبر الحكم محل تعليقنا أن قول الطاعن بالنقض بتقادم الحق الذي بذمته إقراراً ضمنياً بثبوت الحق الذي بذمته.

الوجه الثالث: متى يكون الدفع بتقادم الدين إقراراً بوجوده؟

في كل الأحوال يكون الدفع بتقادم الدين إقراراً بوجوده في ذمة الدافع، إذ ان الدافع لا ينكر احقية الدائن في الدين وإنما الدافع يدعي بأنه يمتنع على المدعي المطالبة بذلك الدين بعد مضي مدد التقادم المبينة في المواد 16و 17و 18و 20و21و22 إثبات، فإذا توفرت شروط التقادم المنصوص عليها فإن القاضي يحكم بعدم سماع الدعوى وليس عدم ثبوت الحق، لأن الحق ثابت في هذه الحالة ولا يستثنى من ذلك إلا دعوى العقار التي صرح القانون المدني بوجوب الإستماع لها حتى ولو مضت مدة ثلاثين سنة طالما وأن المدعي لديه قرائن وأدلة قوية دالة على صدق الدعوى فتسمع دعواه تأكيداً لحفظ الحقوق حسبما ورد في المادة(1118) مدني.

ومن خلال ما ذكرنا في هذا الوجه فإن الحكم بعدم سماع الدعوى للتقادم قاصر على المنقولات وليس العقارات، كما أن الحكم بعدم سماع الدعوى لا يعني براءة ذمة المدين من الدين ديانةً وإخلاقاً، فإن هذا الحكم بمثابة إثبات وجود الدين بذمة المدين وأنه مسئول أمام الله وضميره عن الوفاء بما في ذمته.

الوجه الرابع : مدى انطباق وصف النظام العام على الدفع بسقوط الدين بالتقادم:

في سياق تنظيم القانون المدني لإنقضاء الحق بالتقادم صرح القانون المدني اليمني في المادة(449) على أنه (لا تمتنع المحكمة من سماع الدعوى من تلقاء نفسها إلا إذا تمسك المدين بذلك ويجوز التمسك في أية حالة تكون عليها الدعوى)

ويفهم من هذا النص ان هذا الدفع ليس من النظام  العام حيث ان المحكمة لا تتمنع من تلقاء نفسها عن سماع الدعوى، فلو كان من النظام العام لامتنعت المحكمة عن ذلك من تلقاء ذاتها باعتبارها حارسة للنظام العام ولو لم يتمسك به الخصوم، فضلاً عن ان عدم السماع في هذه الحالة يتأسس على ثبوت الحق بذمة المدين الا انه لا يحق له المطالبة القضائية بذلك، وهناك اتجاه يذهب الى ان الدفع بسقوط الدين للتقادم من قبيل النظام العام، لان النص القانوني السابق ذكره أجاز للدفع بعدم سماع الدعوى للتقادم وهو ذاته الدفع بعدم جواز نظر الدعوى المذكور في المادة (187)مرافعات التي نصت على انه( يجوز ابداء الدفع بعدم القبول (عدم جواز النظر) امام درجتي التقاضي في اية حالة كانت عليها الخصومة وعلى المحكمة ان تقضي به قبل الفصل في الموضوع واذا رأت المحكمة ان انتقاء صفة المدعى عليه قائم على أساس أجلت نظر الدعوى....الخ) ونحن نذهب إلى اختيار القول بأن الدفع بسقوط الدين للتقادم ليس من النظام العام، لأن هذا الدفع لا تنطبق عليه المادة (187) مرافعات السابق ذكرها حيث أنها تتناول شروط قبول قبول الدعوى(الصفة والمصلحة) حسبما ورد في المادة ذاتها، وهناك فرق بين الدفع بعدم قبول الدعوى والدفع بعدم سماعها، ولا ريب ان الحكم محل تعليقنا قد أخذ بالإتجاه الذي  يذهب إلى أن الدفع بسقوط الدين ليس من النظام العام.

الوجه الخامس : مضان الدفع بسقوط الدين للتقادم :

تتأسس فكرة التقادم على مضان عدة منها : مضنة السداد فربما أن المدين قد سدد الدين في المدة المحددة لذلك فلا يعقل أن يسكت الدائن طوال فترة التقادم  عن المطالبة بدينه إلا إذا كان هناك عذراً يمنعه من ذلك، كما أن هذا الدفع يتأسس أيضاً على مضنة الإبراء فربما أن الدائن قد ابرأ المدين  من الدين خلال الفترة المحددة للسداد إلا أن ظروف المدين المالية قد تحسنت في حين ساءت ظروف الدائن المالية فقام بالمطالبة القضائية بعد انقضاء المدة، كما أن هذا الدفع يتأسس أيضاً على مضنة تراخي وإهمال الدائن عن المطالبة بدينه خلال المدة المحددة فإذا كان قد أهمل حقه وتراخى عن المطالبة به فليس جديراً بقبول القضاء لدعواه المتقادمة، كما يتأسس هذا الدفع أيضاً على الحفاظ على استقرار المراكز القانونية بإعتبار ذلك مصلحة فردية وجماعية فلا ينبغي أن تظل المراكز القانونية للأشخاص مهددة بالمطالبات القضائية بعد مضي مدة معينة من غير عذر يحول دون المطالبة، فهذه المضان وغيرها يقتضيها طابع التنظيم لعلاقات الأشخاص ومراكزهم القانونية من وجهة النظر القضائية، أما من الناحية الدينية والإخلاقية والإنسانية ومبادئ العدالة فإنها تقضي بوجوب أن يؤدي المدين ما بذمته من دين ولو تقادم وإلا فهو آثم عند لله وممتنع عن أداء الواجب وذلك قبح في ميزان العدالة وعرف الناس وإخلاقهم، والله أعلم.