المنازعة في وجود وثيقة التحكيم لا تتقيد بمدة

 

المنازعة في وجود وثيقة التحكيم لا تتقيد بمدة

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

من الغريب والمريب في اليمن صدور أحكام تحكيم من غير وجود وثيقة التحكيم مكتوبة،ففي بعض الحالات تكون الوثيقة غير مكتوبة وفي حالات اخري تكون مهمة الأشخاص المختارين  هى التوفيق والإصلاح بين الخصوم وليس التحكيم كما قد يتدخل بعض الأشخاص من اختيار الخصوم التحكيم او الاصلاح بين الخصوم، كما انه قد يدعي بعض المحكمين أو الخصوم وجود وثيقة تحكيم ولكنهم  لا يبرزونها وإنما يتحاشون ذلك عن طريق التمسك أمام محكمة الاستئناف بعدم قبول دعوى بطلان حكم التحكيم لانقضاء المدة المقررة قانوناً لتقديم الدعوى مستغلون قلة الوعي والخبرة القانونية لدى الطرف الاخر،وفي سياق هذه التلبيسات  يقوم المتمسك بحكم التحكيم المنعدم أو المعيب بالدفع بعدم قبول دعوى البطلان  لتقديمها بعد مضي المدة وذلك بقصد الحيلولة دون قيام محكمة الاستئناف بالتحقق من وجود وثيقة التحكيم ومدى توفر الشروط القانونية فيها، ويهدف الدافعون في هذه الحالة إلى تحصين أحكام التحكيم المنعدمة أصلاً لعدم وجود وثائق التحكيم، وخطورة هذا الأمر جعلت الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا تقضي بانه يتوجب على محكمة الاستئناف في هذه الحالة ان تتحقق من وجود وثيقة التحكيم ومدى توفر الشروط القانونية فيها وان المنازعة في وجود وثيقة التحكيم وصحتها  تكون مقبولة حتى بعد انقضاء المدة المقررة لتقديم دعوى البطلان طالما والقضية منظورة ومثارة امام المحكمة حسبما ورد في الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 27/2/2018م في الطعن رقم (59395) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان هيئة تحكيم اصدرت حكمها وقامت بإعلان الخصم المدعي بالبطلان بحكم التحكيم عن طريق عاقل الحارة الذي افاد بانه رفض استلام الإعلان ونسخة الحكم إلا ان المدعي بالبطلان تسلم لاحقا نسخة الحكم وتقدمً بدعوى البطلان،وفي مواجهة ذلك قام المدعى عليه بالبطلان بالدفع بعدم قبول الدعوى لثبوت تقديمها بعد مضي المدة واحتج بإفادة عاقل الحارة وبناءً على ذلك قضت محكمة الاستئناف برفض الدعوى، فقام المدعي بالبطلان بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي فقبلت الدائرة الطعن ونقضت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا (وبما ان الطاعن ينازع في حقيقة وثيقة التحكيم مدعياً بانها غير صالحة لإصدار حكم تحكيم بين الطرفين حيث ذكر الطاعن ان الطرفين اختارا الثلاثة الاشخاص للتوفيق والإصلاح بينهما وليس الحكم وان دور أولئك الاشخاص هو الإصلاح وليس الحكم، وحيث ان المدعى عليه بالبطلان لم يبرز وثيقة التحكيم المتنازع بشأنها، فمدعي البطلان كان ينازع في وجود وثيقة تحكيم صالحة لتولية وتحكيم الاشخاص الذين اصدروا الحكم، ولذلك فانه كان اللازم على محكمة الاستئناف طلب وثيقة التحكيم ومناقشة مضمونها للتأكد من طبيعة مهمة المختارين ومدى توفر شروط الوثيقة وصلاحيتها لقيام المذكورين بإصدار حكم تحكيم، لان ما ذكره الطاعن بان حكم التحكيم قد صدر بدون وثيقة تحكيم مكتوبة هو دفع جوهري يتغير به ان صح وجه الحكم في الدعوى مما يتوجب على المحكمة مناقشته والفصل فيه قبل الفصل في الدفع الشكلي بعدم قبول دعوى البطلان شكلاً لتقديمها بعد فوات ميعادها القانوني، لانه في حالة ثبوت عدم ولاية المحكمين في اصدار الحكم بين الطرفين لعدم صحة وثيقة التحكيم  يجعل ذلك الحكم الصادر منهم منعدماً لا يتحصن بمرور المدة مما يجوز الدفع به دون التقيد بمواعيد الطعون أو الدعاوى المنصوص عليها في هذا القانون أو غيره من القوانين الاخرى) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الأوجه الأتية 

الوجه الأول : سوء استعمال الدفع بعدم قبول دعوى بطلان حكم التحكيم في بعض الحالات :

نكرر القول بان غالبية المتقاضين في اليمن يخلطون بين الذكاء والمغالطة ويحسبون ان المغالطة نوع من الذكاء، ولذلك يعمدون إلى اساءة استعمال الدفوع لا سيما الشكلية مثل الدفع بعدم قبول دعوى بطلان حكم التحكيم لتقديمها بعد فوات المدة المقررة قانوناً لقبولها وذلك بهدف التستر على وجود حكم التحكيم ذاته الذي لا يوجد إلا بوجود وثيقة تحكيم مكتوبة صحيحة من الناحية القانونية حيث يلبس هؤلاء المتقاضون المكايدون على المحكمة ويحجبوا بصرها عن النظر في حقيقة وجود حكم التحكيم، مع ان النظر في هذا الدفع يقتضي التحقق من صحته الذي يستدعي أيضاً التحقق من وجود وثيقة التحكيم وصحتها التي لا تقوم لحكم التحكيم قائمة بدونها فهذا الأمر لا يتنافى مع كون الدفع بعدم قبول الدعوى في هذه الحالة من النظام العام،لان هناك اولوية للفصل في دفع الانعدام قبل غيره حسبما قضى الحكم محل تعليقنا،وقد يقول قائل:أن القانون يشترط ايداع نسخة من حكم التحكيم مع وثيقة التحكيم خلال مدة ثلاثين يوما من تاريخ صدور الحكم ، فيرد على هذا القول بأن هناك تساهل في عملية ايداع الحكم مع وثيقة التحكيم،على الرغم من أن القانون قد نص عليها حتى أن احكام القضاء قد استقرت على أن الايداع في الميعاد ليس نصا أمرا إضافة الى ان الايداع لايعني سبق قيام القاضي بدراسة وتحقيق حكم التحكيم ووثيقة التحكيم.  

الوجه الثاني : وثيقة التحكيم وولاية المحكم :

التحكيم وسيلة ارادية لحسم النزاع ،حيث تعتمد هذه الوسيلة على اتفاق الخصوم وتعاقدهم على اختيار محكم أو محكمين للفصل في النزاع القائم بينهم، وقد اطلق قانون التحكيم على اتفاق الخصوم (وثيقة التحكيم) التي اشترط القانون ان تكون مكتوبة وان تتضمن اسماء المحكمين وموضوع التحكيم أو النزاع الذي تم الاتفاق على الفصل فيه وان يتم التوقيع على الوثيقة من قبل المحتكمين، ولوثيقة التحكيم أهمية بالغة لولاية المحكم أو هيئة التحكيم، كما ان لها اهميتها واثرها في الحكم الصادر عن هيئة التحكيم، فالمحكم يستمد ولايته في نظر الخصومة التحكيمية من هذه الوثيقة فبدونها يكون حكم التحكيم منعدما لا وجود له، فوثيقة التحكيم مثلها مثل قرار تعيين القاضي فيما يتعلق بولاية  المحكم.

الوجه الثالث : أهمية مناقشة وثيقة التحكيم عند المنازعة بشأنها :

سبق القول بأهمية وثيقة التحكيم وعلاقتها الجدلية بولاية المحكم وحكم التحكيم وان ولاية المحكم مستمدة من تلك الوثيقة وان مصير حكم التحكيم متعلق ومرتبط بها، ولذلك فان المنازعة بشأن الوثيقة من حيث وجودها أو مدى صلاحيتها وسلامتها وتوفر شروطها تستدعي من القاضي ان يدرس وثيقة التحكيم وان يناقشها باهتمام في ضوء احكام القانون واقوال الخصوم، كما ينبغي  ان تتجه هذه المناقشة إلى تحديد طبيعة المهمة المسندة للمحكمين المذكورة في وثيقة التحكيم وهل مهمتهم هي الفصل في النزاع بحكم تحكيم أم أن مهمتهم قاصرة على التوفيق والإصلاح بين الخصوم بموجب عقد صلح، وبعد المناقشة التفصيلية لوثيقة التحكيم ينبغي ان تخلص هذه المناقشة إلى القول : بمدى وجود هذه الوثيقة ومدى توفر شروطها وسلامتها وتحديد طبيعة مهمة المحكمين باعتبار هذه المناقشة مدخلاً هاماً لفصل محكمة الاستئناف في دعوى البطلان بحكم موافق للشرع والقانون.

الوجه الرابع : اولوية الفصل في الدفع بعدم وجود وثيقة التحكيم وعدم صحتها والدفع بعدم قبول دعوى البطلان لانقضاء المدة :

قضى الحكم محل تعليقنا بانه اذا أصير امام محكمة الاستىناف الدفعان المشار اليهما فالواجب على محكمة الاستئناف ان تنظر أولاً في الدفع بعدم وجود وثيقة التحكيم أو عدم صحتها لأهمية هذا الدفع وأهمية وثيقة التحكيم لان هذا الدفع يترتب على صحته انعدام حكم التحكيم فاذا ثبت للمحكمة عدم صحة الدفع بوجود وثيقة التحكيم أو عدم صحتها فان المحكمة بعدئذ تتعرض للدفع بعدم قبول دعوى البطلان لانقضاء المدة المقررة قانوناً لتقديمها، والله اعلم.