الخطا الطبي المشترك
أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون –
جامعة صنعاء
إجراء
العمليات الجراحية يستلزم ان يشترك في إجرائها الطبيب الجراح مع طبيب التخدير بصفة
اساسية وتتم هذه العمليات في مستشفى يقصده المريض المجني عليه فيتعاقد معه، وفي
بعض الحالات تتداخل الأخطاء بين الجراحة وطبيب التخدير والمستشفى فينجم عن ذلك
المسئولية الطبية الثضامنية حسبما ورد في اسباب الحكم محل تعليقنا وهو الحكم
الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 8/5/2012م
وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان النيابة العامة اتهمت الطبيب
الجراح وفني التخدير ومدير المستشفى بصفته الممثل القانوني للمستشفى أتهمتهم في
التسبيب خطأ في وفاة المريض المجني عليه بسبب الخطأ الطبي المشترك المتمثل في عدم
إتباع القواعد الطبية المرعية في غسل
البطن عند إجراء العمليات الجراحية وعدم قدرة فني التخدير على إنعاش المريض المجني
عليه وإفاقته بعد العملية واستعانة
المستشفى وسماحها لفني التخدير بمزاولة التخدير في أثناء إجراء العمليات خلافا
للأصول والقواعد الطبية التي توجب أن تسند مهمة التخدير في أثناء العملية لطبيب
تخدير مجاز وليس فني تخدير، وقد توصلت المحكمة الابتدائية إلى الحكم بإدانة
المتهمين بجريمة القتل الخطأ بسبب الخطأ الطبي المشترك من قبل الطبيب الجراح وفني
التخدير والزامهما بدفع دية
القتل الخطأ بالإضافة إلى تكاليف العلاج والمخاسير ولهما حق الرجوع على المستشفى
الذي يعملان به على اساس مسئولية المتبوع عن اعمال تابعيه بالإضافة إلى معاقبة
المستشفى بدفع مبلغ خمسين ألف ريالا غرامة للخزينة العامة ومعاقبة الطبيب الجراح
وفني التخدير بالحبس لمدة سنة مع وقف التنفيذ، وقد استند الحكم الابتدائي في قضائه
إلى تقرير الطبيبين الشرعيين اللذين
ندبتهما النيابة العامة بتحديد سبب وفاة المريض المجني عليه ، فقام المتهمون
باستئناف الحكم حيث قضت الشعبة الجزائية بإلغاء الحكم الابتدائي وإحالة المتهمين
إلى مكتب الصحة لمسائلتهم تأديبيا، وقد استند الحكم الاستىنافي في قضائه إلى تقرير
لجنة طبية قامت بدراسة المستندات المقدمة من المستشفىً، فقامت النيابة العامة
بالطعن بالنقض في الحكم، فقبلت الدائرة الطعن ونقضت الحكم الاستئنافي وأقرت الحكم
الابتدائي، وقد جاء ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (فقد تبين ان النيابة العامة نعت
في طعنها على الحكم المطعون فيه انه اهدر تقرير الطبيبين الشرعيين المكلفين من
النيابة اللذين قاما بتشريح جثة المجني عليه وتوصلا في تقريرهما إلى ان سبب الوفاة
خطأ طبي جسيم وهو عدم تنظيف البطن عند إجراء العملية الجراحية واختناق المجني عليه
لعدم قدرة فني التخدير على إنعاش المجني عليه وإفاقته بعد إجراء العملية الفاشلة،
ونعي اولياء دم المجني عليه في طعنه على الحكم المطعون فيه انه قد اعتمد على تقرير
لجنة طبية لم يتم تشكيلها بموجب تكليف من المحكمة أو النيابة، والدائرة تجد ان هذه
المناعي في محلها، فالثابت انه تم اسعاف المجني عليه إلى المستشفى حيث تم إجراء
عملية استكشافية اولى تبين من خلالها ان التجويف البطني للمجني عليه ملئ بالقيح
فتم شفط القيح وغسل البطن بمحلول ملحي حسب قول الطبيب الجراح المتهم الذي اضاف ان
المريض كان يعاني من التهاب الزائدة الدودية الملتهبة التي كانت ملتصقة بالأمعاء
ومع ذلك فقد قام الطبيب بقفل البطن في العملية الاولى ولم يعالج المرض وهو التهاب
الزائدة ولصوقها بالأمعاء فعاد المريض اليوم الثاني حيث اجريت له عملية جراحية
ثانية وبعدها لم يقدر فني التخدير على إنعاش المريض وإفاقته مما ادى إلى وفاته
حسبما ورد في اقوال المتهمين وتقرير الطبيبين الشرعيين، وقد ثبت ان فني التخدير
ليس طبيباً في التخدير وإنما فني تخدير قام المستشفى باستقدامه دون ان يتأكد من
مؤهله وقدرته ولذلك فان المسئولية عن الخطأ الطبي في هذه الحالة هي مسئولية
تضامنية يتحملها الطبيب الجراح وفني التخدير والمستشفى الذي تمت العملية الجراحية
فيه) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :
الوجه الأول : إحتكار
المجلس الطبي للرأي الفني والعلمي في الخطأ الطبي :
صرح قانون إنشاء
المجلس الطبي بانه يجب على جهات التحقيق ان ترجع إلى المجلس للوقوف على رأيه الفني
والعلمي في الشكوى المرفوعة بشأن الاخطاء الطبية وذلك قبل مباشرة تلك الجهات
لإجراءات التحقيق حيث نصت المادة (21) من قانون المجلس الطبي على انه (على أية جهة
تتولى التحقيق في شكاوى مهنية ضد مزاولي المهنة ان تستطلع رأي المجلس فنياً
وعلمياً قبل السير في إجراءات التحقيق مالم تكن الشكوى محالة أصلاً من المجلس وعلى المجلس ان يبت في
الشكوى خلال مدة اقصاها عشرة أيام) وبناءً على هذا النص فان المجلس الطبي هو الذي
يحدد الخطأ الطبي ونوعه وما اذا كان الخطاً جسيماً وتحديد ما اذا كان هناك خطأ طبي
ام لا ،حيث يفصح المجلس عن ذلك في التقرير الذي يرفعه إلى الجهة التي تتولى
التحقيق، وبناء على مايرد في تقرير المجلس
يتحدد مسار التحقيق ومصيره ، وهناك انتقادات شديدة في اليمن لهذا النص لان
المجلس الطبي مشكل من الأطباء بنسبة 98% وهؤلاء الاطباء تكون لهم علاقات زمالة
ومصالح مع الاطباء الذين تنسب اليهم الاخطاء الطبية، ولذلك ففي حالات كثيرة لا
تقوم جهات التحقيق باللجوء إلى المجلس الطبي لاستطلاع رايه مثلما حصل في القضية
التي تناولها الحكم محل تعليقنا فقد ندبت النيابة العامة طبيبين شرعيين لتحديد سبب وفاة المريض المجني
عليه.
الوجه الثاني : ماهية
الخطأ الطبي :
لم يبين قانون مزاولة
المهن الطبية والصيدلة وقانون المجلس الطبي
ماهية الخطأ الطبي، ولكن الفقه حدد
الخطأ الطبي حيث ذكر بأن الخطأ الطبي يقع عند مخالفة الطبيب للأصول والقواعد الطبية
المرعية الواجب اتباعها عند القيام بالعمل الطبي الذي يباشره الطبيب وهي تلك
القواعد التي يحرص على اتباعها والالتزام بها الطبيب الحريص، فلكل عمل من الأعمال
الطبية شروط وقواعد وتعليمات يجب على الطبيب اتباعها عند مباشرته لهذا العمل بما
في ذلك العمليات الجراحية فهناك اصول وقواعد وتعليمات يجب على الطبيب الجراح وطبيب
التخدير القيام بها قبل بدء العملية وفي اثنائها وبعد اجرائها، فاذا خالف الجراح
او المخدر تلك القواعد والتعليمات فيكون قد اخطأ في عمله مما يجعله مسئولاً عن
الاضرار التي تحدث للمريض بسبب ذلك الخطأ (الخطأ في المسئولية الطبية، د.اسعد
الجميلي، صـ25).
الوجه الثالث : تداخل
الاخطاء الطبية والمسئولية التضامنية :
قضى الحكم محل
تعليقنا بان الاخطاء الطبية في القضية التي تناولها الحكم قد تداخلت وتبعاً لذلك
فقد ترتبت عليها المسئولية التضامنية بين الذين ارتكبوا هذه الاخطاء، فالطبيب
الجراح قد اخطأ حينما قام بالعملية الجراحية الاستكشافية الاولى ووجد ان الزائدة
الدودية ملتصقة بالأمعاء وملتهبة وقفل البطن ولم يعالج سبب المرض وسمح للمريض
بالخروج ثم اخطأ حينما قام بالعملية الجراحية الثانية وقام بغسل بطن المريض بمحلول
ملحي رخيص بدلاً من استعمال المحاليل المعتمدة في هذه الحالة كما ان فني التخدير
ليس طبيب تخدير معتمد خلافاً لأصول وقواعد المهنة التي توجب الاستعانة في أثناء
القيام بالعمليات الجراحية بطبيب تخدير مختص وليس فني تخدير ،كما أن مدير المستشفى
قام بجلب المحاليل الرخيصة لإستعمالها في اثناء العمليات كما ان مدير المستشفى قد
استقدم فني التخدير بدلاً من طبيب التخدير، اما فني التخدير فقد ثبت ان خطاءه كان
السبب المباشر للوفاة حيث عجز الفني عن انعاش المريض المجني عليه وإفاقته من
التخدير بعد العملية الجراحية حتى اختنق ومات حسبما ورد في تقرير الطبيبين
الشرعيين.
الوجه الرابع : تقديم
تقرير الطبيبين الشرعيين على تقرير اللجنة الطبية :
اشار الحكم محل
تعليقنا إلى ان تحديد سبب وفاة المجني عليه من اختصاص الطبيبين الشرعيين لان ما
ورد في تقريرهما ناتج عن فحص وتشريح جثة المجني عليه، في حين كانت نتائج اللجنة
الطبية ناتجة عن دراسة مكتبية للوثائق المقدمة من المستشفى الذي هو المتهم
والمسئول أصلا عن الخطأ الطبي
الوجه الخامس: عقوبة
الخطأ الطبي:
من خلال مطالعتنا
للحكم محل تعليقنا نجد أنه قد أقر الحكم الابتدائي الذي قضى بمعاقبة الطبيب الجراح وفني التخدير
ومدير المستشفى وإلزام الجراح وفني التخدير بدفع دية القتل الخطا وسند الحكم في
ذلك الخطأ الصادر من المتهمين قد تسبب في وفاة المريض المجني عليه عملا بالمادة (238) عقوبات التي نصت على أن(يعاقب بالدية من
تسبب بخطئه في موت شخص ويجوز فوق ذلك تعزير الجاني بالحبس مدة لاتزيد على ثلاث
سنوات أو بالغرامة،فاذا وقعت الجريمة نتيجة
إخلال الجاني بماتفرضه عليه اصول وظيفته أو مهنته او حرفته أو مخالفته للقوانين
واللوائح أو كان تحت تأثير سكر او تخدير عند وقوع الحادث كان التعزير الحبس مدة
لاتزيد على خمس سنوات ) واضافة إلى العقوبة الجزائية المقررة في هذا النص فان هناك
عقوبة تاديبية يتم توقيعها على الطبيب الذي يقع منه الخطأ الطبي حسبما ورد في
المادة(24)من قانون المجلس الطبي التي نصت على أنه(مع
عدم الإخلال بأحكام المسئولية الجزائية والمدنية يكون مزاول المهنة محلا للمسائلة
التاديبية إذا اخل باحد واجباته المهنية أو خالف اصول المهنة وادابها،وفي هذه
الحالة يحق للمجلس الطبي ان يطبق عليه إحدى العقوبات التالية:لفت
النظر-الانذار-غرامةمالية لاتتجاوز خمسين
ألف ريالا-السحب الموقت لتراخيص مزاولة المهنة لمدة لاتزيد عن ستة أشهر - شطب الاسم
من سجلات المجلس وإلغاء ترخيص مزاولة المهنة) والله اعلم.
الأسعدي للطباعة ت : 772877717