سرقة الماء من انابيب المؤسسة
أ.د. عبد المؤمن
شجاع الدين
الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء
سرقة الاموال العامة والاستيلاء عليها ثقافة سلبية سائدة في اليمن تحتاج الى تصحيح وتقويم اعوجاجها, فكل يسرق ما يقدر عليه ويستطيعه, فهناك من يسرق المليارات من المال العام وهناك من يسرق الاموال العامة اليسيرة كالماء ولكنهم جميعا سرق في نظر الشريعة والقانون, وسرقة الماء والكهرباء خطيرة وان تساهل فيها بعض الناس ؛ لان هذه السرقات الشائعة والمنتشرة في اليمن تهدد مؤسسات المياه الحكومية بالإفلاس وايقاف خدماتها حيث يعمد كثير من المواطنين الى توصيل الماء الى منازلهم من غير عداد يحتسب الكميات او يقومون بشفط الماء من انابيب الموسسة من غير ان يحتسب العداد الماء الذي يتم شفطه, وهذه الظاهرة السائدة في اليمن من الظواهر التي ينظر اليها المجتمع على انها نوع من الشطارة في حين انها سرقة في نظر الشريعة والقانون كما سنرى, ولذلك نجد انه من المناسب التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 30/1/2011م في الطعن الجزائي رقم (40131) لسنة1432هـ, وتتلخص وقائع القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا ان احد المواطنين قام خفية من غير علم اواذن مؤسسة المياه الحكومية ومن غير ان يتفق معها قام بتوصيل الماء الى منزله عن طريق مد انبوب فرعي من انبوب الماء العمومي التابع للموسسة الحكومية قام بسرقة الماء لفترة من الزمن وعند اكتشاف تلك السرقة من قبل المفتشين التابعين للموسسة تمت احالة القضية الى نيابة الاموال العامة التي اتهمت الجاني بانه اخذ خفية مالا منقولا عاما مملوكا للدولة ممثلة بمؤسسة المياه والصرف الصحي وذلك بأن قام خفية بمد ما صوره من خط المياه الى خزان منزله وبدون عداد وبدون علم المالك او رضاه حيث بلغت قيمة الماء المسروق مائة وثمانية الاف ريال واربعمائة وثمانين ريالا الامر المعاقب عليه وفقا للمواد (17و299و300) عقوبات وطلبت النيابة من محكمة الاموال العامة الحكم على المتهم بالعقوبة المقررة شرعا حسبما ورد في قرار الاتهام, وقد قضت محكمة الاموال العامة بثبوت ادانة المتهم بالتهمة المنسوبة اليه وهي واقعة سرقة المياه من القصبة الرئيسية ومعاقبته بالحبس مدة اربعة اشهر مع وقف التنفيذ والزامه بتسليم مبلغ وقدره اربعون الف ريالا كتعويض للمؤسسة عن المياه التي استهلكها المتهم طوال الفترة الماضية بالإضافة الى الزامه بدفع خمسة عشر الف ريال للموسسة مصاريف قضائية واتعاب حسبما ورد في منطوق الحكم الابتدائي, فلم يقنع المتهم بالحكم الابتدائي حيث قام باستئنافه فما كان من الشعبة الاستئنافية الا ان قبلت الاستئناف والغت العقوبة والتعويض وقضت ببراءة المتهم !!!؟ وقد جاء في اسباب الحكم الاستئنافي ان المتهم متضرر امام الجهات المختصة من اتهامه بالسرقة للمياه كما ان الشهود عليه هم المختصون التابعون لمؤسسة المياه !!!, فقامت مؤسسة المياه بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي امام الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا التي قررت نقض الحكم الاستئنافي, وقد جاء في اسباب حكم المحكمة العليا (وفي الموضوع : فان نعي الطاعنة في محله لان الشهود المذكورين هم من يجب الاخذ بتقريرهم باعتبارهم خبراء فنيين في معرفة كيفية السرقة فيما شهدوا به, ولذا فان الحكم الاستئنافي المطعون فيه قد جانب قواعد الشرع والقانون لعدم الاخذ بالشهادة واهدار المال العام مما يتعين اقرار الحكم الابتدائي فيما قضى به والغاء الاستئنافي) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الاوجه الاتية :
الوجه الاول : سرقة الماء من انبوب الموسسة من الناحية الشرعية :
الماء مباح اصلا
ولكن اذا تمت حيازته وحفظه في حرز مثله فيما يحفظ به فيكون مالا مملوكا محرزا تقطع
يد سارقه اذا اخذه خفية؛وهذا هو قول جمهور العلماء في حين ذهب الحنفية الى ان سرقة الماء تكون تعزيرية وليس حدية
فلاقطع عند الحنفية في سرقة الاموال اذا
كان اصلها مباحا كالماء والحطب والحجارة , وحرز الماء هو الخزان المحكم الاغلاق
وكذا الانبوب المغلق (التشريع الجنائي, عبد القادر عوده ص2/221, والتشريع الجنائي,
أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين 112) وسرقة الماء في ذلك مثلها مثل سرقة التيار
الكهربائي المحرز في الاسلاك المحرزة او
المحفوظة في اعلى اعمدة الكهرباء وكذا الغاز المسال المحرز في الانابيب, وعلى ذلك
فان سرقة الماء المحرز اذا بلغ نصابا فان سرقته تكون سرقه حدية موجبة لقطع يد
السارق , هذا اذا تمت السرقة خفية اما اذا كان السارق للماء قد قام بتوصيل الماء
من انبوب الموسسة عنوة جهارا نهارا فهو محارب تقطع يده اليمنى مع رجله اليسرى .
الوجه الثاني : سرقة الماء من انبوب الموسسة في القانون اليمني :
الماء مال اذا تمت حيازته ووضعه في حرزه وهو المكان المعد لحفظه اصلا كالأنابيب والخزانات ولذلك فان قانون الجرائم والعقوبات اليمني يعاقب سارق الماء المحرز بعقوبة السرقة الحدية اخذا بقول جمهور الفقهاء؛ حيث نصت المادة (294) عقوبات على ان (السرقة هي اخذ مال منقول مملوك للغير خفية مما يصح تملكه فاذا وقعت على نصاب من المال من غير شبهة ومن حرز مثله بقصد تملكه دون رضاء صاحبه وكان المال المسروق تحت يد صحيحة وبلغت ككككككقيمته النصاب المحدد اوجبت الحد الشرعي للسرقة وان كانت مغالبة على النحو المبين في الفصل الثاني اوجبت الحد الشرعي للحرابة وان كانت غير ذلك من الاختلاس او النهب او السلب عزر الجاني عليها طبقا للقانون) وعند تطبيق هذا النص القانوني على سرقة الماء من انابيب المؤسسة الحكومية او خزاناتها نجد ان هذه السرقة تكون حدية لأنها سرقة من حرز الماء المعد اصلا لحفظه اذا قيمة الماء المسروق النصاب, ولا نعرف ماهي الشبهة التي جعلت الحكم الابتدائي يعدل عن تطبيق الحد الشرعي للسرقة.
الوجه الثالث : خطورة سرقة الاموال العامة ووجاعتبارها ظرفا مشددا للعقوبة :
لخطورة سرقة
الاموال العامة واثارها المدمرة على استمرار مرافق الدولة الخدمية بتقديم خدماتها
للجمهور فان القوانين في العالم كافة حتى في اليمن تنص على ان أي جرائم تقع على
الاموال العامة لا تسقط بالتقادم, كما ان الفقه الاسلامي يذهب الى ان جرم السارق
للمال العام اعظم من جرم السارق للمال الخاص لان المجني عليه في سرقة الاموال
العامة هي الامة كلها في حين يكون المجني عليه فيفردا او افراد .
الوجه الرابع : النظرة الاجتماعية لسرقة الاموال العامة في اليمن :
مصطلح (حق الدولة) في المجتمع اليمني مبرر يتوسل به السراق واللصوص لسرقة الاموال العامة لأنها هذه السرقة غير حدية لان السارق للمال العام له نصيب من المال العام ولذلك فهو لا يسرق مال غيره, وقد كان فقهاء السوء في مراحل مختلفة من التاريخ يضعون هذا المبرر لحماية السراق للأموال العامة ؛ ولذلك فان محاربة الفساد لا تستدعي فقط تعديل النصوص القانونية وانما تقتضي تعديل السلوك والموقف الاجتماعي من هذه الجريمة الخطيرة, لان المجتمع اليمني ينظر لسرقة المال العام على انها نوع من الذكاء والشطارة, ولذلك يذهب الدكتور سيد عويس في كتابه القيم (العقوبة الاجتماعية) يذهب الى ان البحث في تشديد العقوبة في القانون الجنائي ضرب من العبث مالم يسعى المختصون الى تعديل النظرة الاجتماعية الى الجريمة حتى يستهجنها المجتمع فيقلع الافراد عنها .
الوجه الخامس : الوضعية الشرعية والقانونية لشهادة العاملين بالمؤسسة العامة للمياه :
من خلال مطالعة الحكم الاستئنافي والحكم محل تعليقنا نجد ان الحكم الاستئنافي في تسبيبه وتبريره لبراءة السارق للماء قد استند الى ان شهادات الشهود التي استند اليها الحكم الابتدائي باطلة ؛ لان الشهود هم موظفوا ومفتشوا المؤسسة فلا تقبل شهاداتهم, وقد رد حكم المحكمة العليا محل تعليقنا بان القانون هو الذي جعل هؤلاء المفتشين التابعين للمؤسسة من مأمور الضبط القضائي وجعل محاضر ضبطهم للمخالفات محررات رسمية, حسبما ورد في اسباب حكم المحكمة العليا، والله اعلم.