حجية مسودات الوقف

 

حجية مسودات الوقف

أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين

الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء

الايمان يمان والحكمة يمانية والفقه يمان شهادة الصادق الامين لأهل اليمن, ومن مظاهر ايمان اهل اليمن حبهم لله ورسوله ووقفهم لكرائم اموالهم لله سبحانه وتعالى؛ ولذلك تجد ان افضل الاموال والاراضي والعقارات في اليمن هي وقف اصلا  ؛ ولان اموال الوقف على هذا الاهمية والقيمة نجد ضعاف النفوس وضعاف الايمان في هذا العصر يقومون بالاعتداء على اموال الوقف بذرائع شتى حيث يختلقوا المبررات والمستندات والدعاوي  المختلفة لتبرير اعتداءاتهم على اموال الوقف, وفي مواجهة هذه المساعي العدوانية والشيطانية قرر القانون ان لمسودات الوقف حجية ثبوتية قاطعة وانها  سندات تنفيذيةبمثابة احكاما قضائية باتة او نهائية وان قوتها الثبوتية تفوق الوسائل والادلة الثبوتية الاخرى؛ كما قرر القانون تجريم الاعتداء على اراضي الاوقاف بأية وسيلة سواء بالبسط او الهدم او التصرف او كتابة محررات التصرف في اراضي الاوقاف المخالفة للقانون, ولا ريب ان هذا الموضوع يثير اشكاليات واقعية كثيرة ولذلك فهو يحتاج الى تسليط الضوء عليه ولفت الانظار اليه, وهذا هو الباعث على التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 27/3/2012م في الطعن الجزائي رقم (43218) لسنة 1433هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان احد الاشخاص قام ببيع ارض بموجب كشف حصر  او فصل يتضمن اموال جده القديم قبل اكثر من  ثلاث مائة سنة وكان هذا الفصل قد تم تحريره قبل اكثر من ثلاثمائة سنة على واقعة البيع في حين ان الارض محل البيع حقيقة من اموال الوقف ومؤجرة من الاوقاف لأجيرها الذي استأجرها من بعد ابيه والاهم من هذا ان هذه الارض مثبتة في مسودات الاوقاف بانها من اموال الوقف, وبعد البيع والشراء في تلك الارض جاء المشتري فهدم اجزاء من سور الارضية وغرفة الحراسة وقام بالاستيلاء على الارض مستندا على وثيقة شرائه للأرض فقامت وزارة   الاوقاف واجير الوقف بتقديم شكوى الى نيابة الاموال العامة التي قامت بالتحقيق في الموضوع وبعدئذ توصلت الى ثبوت تهمة الاعتداء على ارض الوقف حيث احالت النيابة القضية الى محكمة الاموال العامة وطلبت النيابة من المحكمة توقيع العقوبة على المتهم وهي العقوبة المقررة في المادة (321) عقوبات والمادتين (62و63) وقف, وقد خلصت المحكمة الابتدائية الى الحكم (ببراءة المتهم ورفض الدعوى المدنية المقدمة من وزارة الاوقاف واجيرها والزام اجير الوقف بتعويض المتهم) وقد ورد في اسباب الحكم الابتدائي (انه ثبت لدى المحكمة ان المتهم قام بشراء كامل الموضع محل الخلاف,  وحيث انه قد حدثت خصومة بين المتهم المشتري والبائع اليه وقد انتهت تلك الخصومة الى الحكم بصحة ذلك البيع والزامه بسداد بقية ثمن الارض الى البائع الا انه امتنع فتم حبسه لتنفيذ ذلك الحكم وبعد خروجه من السجن وجد ان الارض المبيعة قد قام اخرون بالبسط عليها ومن جملتهم اجير الوقف الذي ادعى ان الارض من اموال الوقف وحيث ان ارض الوقف لا تتطابق مع الارض محل النزاع بحسب افادة العدول اما الفصول التي  ابرزها اجير الوقف التي استدل بها على ان والده كان حائزا للارض ومستاجر لها من الاوقاف وانها انتقلت  اليه من والده  فان حجيتها قاصرة على اطرافه) فلم تقبل وزارة الاوقاف واجيرها بهذا الحكم حيث قاموا باستئنافه, وقد قبلت الشعبة الاستئنافية استئناف وزارة الاوقاف واجيرها وقضت بإلغاء الحكم الابتدائي بكامل فقراته وثبوت ملكية وزارة الاوقاف للأرض وثبوت تهمة الاعتداء المنسوبة للمتهم وحبسه مدة سنة والزامه بتعويض اجير الوقف) وقد ورد ضمن اسباب الحكم الاستئنافي  (ان الثابت في اوراق القضية وما بينته مسودة الاوقاف المقدمة صورة منها امام الشعبة حيث جاء في الصفحة 12 منها ان الموضع كاملا وقف وذكرت المسودة حدود ذلك الموضع بما يفيد ان الارض محل النزاع داخلة في ذلك الموضع كما تضمنت افادة حافظة المسودات بمكتبة الجامع الكبير المقدمة امام محكمة اول درجة ان الارض محل النزاع داخلة  في الموضع المذكور انه وقف, ومعلوم شرعا وقانونا ان مسودات الاوقاف تعد دليلا قائما بذاته لا يقبل نقاشا او تشكيكا فيه فقد اعتبرها القانون من السندات التنفيذية حسبما ورد في المادة (328) مرافعات وقد اثبتت المسودة ان الارض محل النزاع ضمن الموضع الذي ذكرت المسودة انه وقف كاملا كما اثبت الشهود المحضرون من قبل اجير الوقف ان الاجير ووالده مستاجران تلك الارض من الاوقاف اما ما استدل به المتهم وهو مستند شرائه فان المطلع على بصيرة شرائه سيجد ان من نسب اليه البيع قد ذكر في تلك البصيرة انه باع عن نفسه وعن موكليه ورثة جده القديم وان ذلك قد صار للبائع عن طريق الارث  بموجب المسودة الشاملة لجميع اموال مورثهم  المؤرخة سنة 1118هـ فهذا البيع يؤخذ عليه عدة مثالب فقد تم بناءه على صورة دفتر حصر له ما يزيد على ثلاثمائة سنة منقطع دون اتصال حتى حصول البيع في عام 1421هـ وقال البائع في تلك الوثيقة انه بائع عن نفسه وعن موكليه ورثة جده القديم فلم يحدد من هم الورثة ولا اتصالهم بمن قال انه جدهم وهذا الانقطاع دون تسلسل يجعله في حكم المعدوم) فلم يقبل المتهم بالحكم الاستئنافي فقام  بالطعن بالنقض في الحكم, الا ان المحكمة العليا رفضت طعنه واقرت الحكم الاستئنافي, وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا انه (ومن حيث الموضوع فقد عاب الطاعن على الحكم المطعون فيه مخالفته للقانون لقبوله دعوى وزارة الاوقاف مع سبق ما يكذبها, والدائرة تجد ان ما اثاره الطاعن في طعنه لا محل له ذلك ان الحكم المطعون فيه قد ناقش كل ما قدمه الطاعن, حيث صدر الحكم المطعون فيه بناء على ادلة قاطعة الدلالة على ما قضى به منها مسودة الاوقاف وشهادة الشهود على ان الارض المتنازع عليها وقف فمن المعلوم ان الوقف يثبت بالشهرة حتى مع عدم توفر المسودة الامر الموجب لرفض طعن الطاعن موضوعا واعادة كفالة الطعن للطاعن لعدم الوجه القانوني ككلاقتضائها) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الاوجه الاتية :

الوجه الاول : ماهية مسودات الاوقاف :

هي الدفاتر المتضمة الوثائق الثبوتية المحفوظة بنظر وزارة الاوقاف التي تبين الاراضي المملوكة للأوقاف ومساحاتها والاشخاص الواقفين لها وحدودها واسمائها وكافة البيانات والمعلومات ذات الصلة بها, ومع ان مسودات الاوقاف قديمة الا ان الاجيال قد تلقتها بالقبول جيل من بعد جيل لانها ثابتة بخطوط امناء معروفين ومشهورين بالعدالة  والصلاح, وتتضمن هذه المسودات اصول وقفيات ودفاتر الاوقاف المتضمنة اسماء وصفات وحدود اراضي الاوقاف وحاصلاتها والمستأجرين السابقين لها وغير ذلك  من البيانات, وقد اشارت المادة (87) وقف الى ان المسودات هي دفتر حصر الاوقاف حيث  نصت على انه (اذا كانت عين الوقف مدونة في دفتر حصر الاوقاف المسودة الحاصلة بخطوط امناء معتبرين وظهر ما يخالفها  فالعبرة بالمسودة)

الوجه الثاني : حجية مسودات الأوقاف :

صرح القانون بان مسودات الوقف  لها حجيتها القطعية, حيث نصت المادة (328)مرافعات على ان (تتحدد السندات التنفيذية فيما يأتي -6- مسودات اراضي وعقارات الاوقاف القديمة التي هي بخط كاتب مشهور) فهذه المسودات تكون بمثابة سندات تنفيذية يتم تنفيذ ما ورد فيها جبرا ان لم يذعن المطلوب التنفيذ ضده للتنفيذ الاختياري, فمسودات الاوقاف بمثابة احكام قضائية باتة او نهائية قابلة للتنفيذ حيث يحق لوزارة الاوقاف مطالبة القضاء مباشرة بتنفيذ ما ورد فيها جبرا مثلها في ذلك مثل الحكم القضائي البات, وبما ان مسودات الاوقاف سندات تنفيذية فانما ورد فيها حجة على الكافة فلا يجوز لهم المنازعة في صحة هذه المسودات باعتبارها سندات تنفيذية فالسند التنفيذي لا تجوز  المنازعة في مضمونه, كما ان المادة (87) وقف قد بينت حجية مسودات الوقف حيث نصت على انه ( اذا كانت عين الوقف مدونة في دفتر حصر الاوقاف المسودة الحاصلة بخطوط امناء معتبرين وظهر ما يخالفها فالعبرة بالمسودة) فهذا النص يقرر صراحة ان العبرة بما ورد في مسودة الاوقاف طالما وهي ثابتة بخطوط امناء معتبرين أو مشهورين بالصلاح والعدالة, ولذلك نجد ان الحكم الاستئنافي قد اعتمد على ما ورد في مسودة الاوقاف ولم  يعمل   بالادلة التي تناقض المسودة؛ لان العبرة بما ورد في المسودة عند التعارض.

الوجه الثالث : عدم حجية الحكم المناهض للمسودة :

من خلال المطالعة للحكم محل تعليقنا نجد ان الحكم الابتدائي قد استند في قضائه ببراءة المتهم ورفض دعوى الاوقاف الى الحكم الصادر فيما بين البائع والمشتري لأرض الوقف الذي قضى بصحة البيع باعتبار هذا الحكم قد دل على ان الارض حر وليست وقف  وان عملية البيع التي انتقلت  بموجبها الارض الى المتهم صحيحة, الا ان محكمة الاستئناف لم تقبل الحكم المشار اايه : اولا : لأنه ليس حجة في مواجهة وزارة الاوقاف لانها ليست طرفا فيه عملا بقاعدة نسبية الاحكام القضائية, وثانيا : ان مسودة الوقف  هي المعتبرة وهي بمثابة حكم بات لا يجوز الطعن فيه فالمسودة بهذا المفهوم اعلى مرتبة من الحكم الذي اعتمده الحكم الاستئنافي كما انه لا يجوز فتح النزاع بشأن ماورد في المسودة باعتبارها سندا تنفيذيا ؛فما كان للقاضي ان يفتح نزاعا بشأن ملكية الوقف وقد تضمنت المسودة انها ارض وقف ؛فالمسودة في هذا المقام سند واجب التنفيذ .

الوجه الرابع : حجية الوثائق القديمة وعدم جواز مناهضتها لما ورد في مسودة الوقف :

من خلال المطالعة للحكم محل تعليقنا نجد ان الحكم الاستئنافي الذي اقره حكم المحكمة العليا قد اخذ بما ورد في مسودة الوقف والافادة عنها التي اكدت ان الارض محل النزاع داخلة ضمن الموضع المذكور في المسودة والافادة بانه وقف وترك الحكم الاستئنافي وحكم المحكمة العليا الوثائق القديمة التي تمسك بها خصم الوقف لأنها كانت عبارة عن وجائد قديمة خالية من الثبوت والحيازة منذ تحريرها قبل اكثر من ثلاثمائة سنة ولم يبسط عليها غريم الوقف الا قبل حدوث النزاع بفترة فالثبوت في هذه الحالة بعد الانقطاع الطويل لا قيمة ولا حجية له, اضافة الى ان تلك الوثائق القديمة كانت عبارة عن حصر مخلف الجد القديم قبل اكثر من ثلاثمائة وحجيتها قاصرة على الاشخاص المتقاسمين  مع الجد الجامع القديم فلا حجية لها في مواجهة الاوقاف كما لا حجية لها في مواجهة ما ورد في مسودة الوقف .

الوجه الخامس : الثبوت والحيازة الطارئة ليس لها حجية :

من خلال المطالعة للحكم تعليقنا نجد انه قد اهدر ثبوت خصم الوقف لأنه كان طارئا أي قبل رفع النزاع الى المحكمة واعتمد ثبوت اليد العرفية  للمستأجر من الوقف الذي شهد الشهود على ان  الثبوت والحيازة للارض محل النزاع قد انتقل اليه  من والده فكان ذلك حجة قاطعة, ولذلك فان مدة الحيازة محل اعتبار في الشرع والقانون فلا تستوي حيازة من كان ابوه وجده حائزان  مع المنازع الذي يدعي او يتمسك بالحيازة العارضة دون ان يكون ابوه وجده حائزان  .

الوجه السادس : ثبوت الوقف بالشهرة :

اشار الحكم محل تعليقنا الى انه يكفي لثبوث الوقف شهرته ؛ فشهرة الوقف تعني انه يستفيض وينتشر وبشتهر العلم والخبر بين اهل البلدة ان الارض وقف ؛فوجود هذه الحالة يكون مثبتا للوقف الا ان الشهرة ذاتها بحاجة الى اثباتها عن طريق قيام  القاضي بندب او تكليف شخص موثوق به  للاستماع الى اقوال اهل البلدة عما  اذا كان قد اشتهر في البلدة ان الارض وقف ؛ ولذلك فقد نصت المادة(87؛) وقف على ان (يثبت الوقف بالشهرة المستفيضة والشيوع في المحلة ولايكتفي الحاكم بشهادة شاهدين على الشهرة حتى يبعث من يثق به الى المحلة فاذا كان اهلها كلهم او اغلبهم مجمعين عليها عمل بها).

الوجه السابع : الاعتداء على ارض الوقف جريمة يعاقب عليها القانون :

فمن خلال المطالعة للحكم محل تعليقنا نجد ان هذه الحكم جنائي قد تضمن عقوبة حبس غريم الوقف المعتدي لمدة سنة, لان الاعتداء على اموال الوقف جريمة يعاقب عليها قانون الجرائم والعقوبات العام بمقتضى المادة (321) عقوبات والمواد (62و63) وقف التي تمنع اغتصاب الوقف والبسط عليه وكذا المادة (87) وقف مكرر التي نصت على انه (مع مراعاة احكام المسئولية المدنية وعدم الاخلال باي عقوبة اشد ينص عليها قانون اخر يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد على سبع سنوات كل من استولى بالقوة على عين موقوفة او اعتدى بالهدم او البناء في ارض موقوفة وكل من اصطنع محررا بقصد الاستيلاء على ارض او ممتلكات الاوقاف وكل من تصرف تصرفا ناقلا لملكية عين موقوفة ببيعها حرا)

الوجه الثامن : سبب اعادة مبلغ الكفالة الى الطاعن مع ان الحكم قد رفض طعنه :

من المقر قانونا في الطعون الجزائية انها تقدم بدون كفالة مالية فهي في هذا الامر تختلف عن الطعون المدنية والتجارية التي يشترط القانون ان يكون الطاعن قد سدد الكفالة المقررة قانونا؛ والله اعلم.