اشكالية الحد الادنى للعقوبة في القانون اليمني

 

اشكالية الحد الادنى للعقوبة في القانون اليمني

أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين

الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء

 

من الاشكاليات القانونية السائدة في اليمن نقل النصوص القانونية من دول اخرى تكون فيها النصوص فاعلة ومناسبة وملائمة للبيئة الامنية والاجتماعية والسياسية...... الخ في تلك الدول, حيث يتم نقل تلك النصوص الى القوانين اليمنية دون مراعاة لاحتياجات المجتمع اليمني والمخاطر الامنية والاجتماعية والاقتصادية التي تحيق بهذا المجتمع, في حين انه المؤكد في السياسة العقابية سواء في الشريعة الاسلامية او القانون انه ينبغي عند وضع العقوبات في القانون مراعاة مدى تناسبها في حديها الادنى والاعلى مع الجريمة التي ارتكبها الجاني, والباحث المتعمق في قانون الجرائم والعقوبات اليمني يجد انه اهتم فقط بتناسب العقوبة مع الجريمة في حدها الاعلى فقط ؛والاخطر من هذا ان غالبية العقوبات المنصوص عليها في قانون الجرائم والعقوبات لم يقرر لكل منها  حد ادنى وترك تحديد حدها الادنى لقاعدة عامة تتجاهل الفروق بين المجرمين والجرائم المختلفة وهي قاعدة التفرقة بين الجرائم الجسيمة والجرائم غير الجسيمة ؛ حيث اكتفى القانون بتقرير الحد الاعلى لغالبية الجرائم ولذا تجد ان اغلب النصوص العقابية في القانون المشار اليه تتضمن عبارة (كل من يفعل كذا يعاقب بالحبس لمدة لا تزيد) فقد يكون الحد الاعلى للعقوبة هو عشر سنوات بالنسبة للجرائم الخطيرة ولكن عند الحكم بالعقوبة لا تستغرب عندما تجد العقوبة هي سنة  مع وقف التنفيذ ؛ فغالبية العقوبات لاحد ادنى لعقوبتها فيتم الحكم بالحبس لمدة اربع وعشرين ساعة لانها غير جسيمة ؛ فهناك سرقات يحكم بها بالحبس لشهرين مع وقف التنفيذ بل ان هناك احكام بشأن الاتجار بالبشر كانت عقوبات غالبها السجن لمدة ستة  اشهر  مع وقف التنفيذ, وهذا الوضع هو الذي يفسر كثرة الجرائم في المجتمع اليمني لان ذلك يدل على العقوبات لاتحقق الردع الكافي , ولذلك ينبغي على من يريد تطبيق مبدأ سيادة القانون ان يتجه الى اصلاح قانون الجرائم والعقوبات لأنه الذي يكفل احترام وتطبيق القانون ؛ لان القوانين كلها لا يمكن احترامها وتطبيقها بدون وجود عقوبات رادعة لمن يقوم بارتكاب افعال مخالفة للقانون, وعلى هذا الاساس فقد جاءت فكرة التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 28/2/2011م في الطعن الجزائي رقم (40357) لسنة 1432هـ وتتلخص وقائع هذه القضية ان احد  الاشخاص قام بالقتل العمد لشخص اخر والحاق جنايات جسيمة  باشخاص اخرين اقرباء للمجني عليه القتيل وكانت هذه الجرائم ثابتة على المتهم فقامت النيابة العامة برفع الدعوى الجزائية مطالبة بتوقيع العقوبات المقررة قانونا على افعاله ومن جهتهم طلب اهل دم القتيل القصاص من الجاني فسارت المحكمة الابتدائية في اجراءات نظر الدعوى الجزائية وفي اثناء ذلك تم التصالح فيما بين اولياء الدم والمتهم  حيث صدر العفو عن المتهم من قبل اولياء الدم فحكمت المحكمة الابتدائية (بسقوط القصاص عن المتهم بتنازل اولياء دم المجني عليه وحبس المتهم مدة سنة من تاريخ القبض عليه في الحق العام) فوجد عضو النيابة العامة ان عقوبة الحبس في الحق العام غير مناسبة للأفعال والجرائم المنسوبة للمتهم فقام عضو النيابة باستئناف الحكم وذكر في استئنافه ان حكم محكمة اول درجة مخالف لأحكام المادتين (396و397) من قانون الاجراءات والمادة (235) عقوبات التي نصت على جواز تقرير المحكمة للجاني عقوبة الحبس مدة لا تزيد عن خمس سنوات اذا عفي عن المتهم كمن قبل ولي الدم في حين انما حكمت به محكمة اول درجة هو عقوبة الحبس للمتهم المستأنف ضده وان تلك العقوبة لا تتناسب مع الجريمة المرتكبة, وقد قبلت محكمة الاستئناف الطعن حيث حكمت بتعديل (عقوبة الحبس المحكوم بها على المتهم من سنة في الحق العام الى حبسه ثلاث سنوات من تاريخ القبض عليه لكونها الحد الادنى في عقوبة الجريمة الجسيمة التي حددتها المادة (16) عقوبات ؛ وقد جاء في اسباب الحكم الاستئنافي (ان الكثير من شراح قوانين الجرائم والعقوبات قد فرقوا بين تسمية الحبس في الجريمتين الجسيمة وغير الجسيمة حيث اطلقوا على عقوبة الجريمة الجسيمة السجن واطلقوا على عقوبة الجريمة غير الجسيمة الحبس لان الاولى ادناها ثلاث سنوات والثانية اعلاها ثلاث سنوات ولا حد لأدناها ومهما يكن الامر فان الحكم الابتدائي خانه الفهم وكان منه الاجتهاد في مورد النص حيث اهدر نصوصا قانونية اعتبرها المشرع قواعد امرة أي ملزمة لا يجوز مخالفتها فمخالفة ذلك تؤدي الى بطلان الحكم حسبما ورد في المادتين (396و397) اجراءات اللتين اشارت اليهما النيابة في طعنها) فلم يقبل المتهم بالحكم الاستئنافي فقام بالطعن بالنقض امام الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا وقد ذكر في طعنه (ان الحكم الاستئنافي قد خالف المادة (235) عقوبات التي قررت عقوبة الحبس في الحق العام في حالة عفو اولياء الدم وهي الحبس مدة لا تزيد عن خمس سنوات ويجوز للقاضي تعزير الجاني في هذه الحالة بالحد الادنى وهو الحبس مدة 24 ساعة !!! فالمادة (16) عقوبات لم تحدد الحد الادنى لمدة عقوبة الحبس في الجرائم الجسيمة وانما فرقت بين الجسيمة وغير الجسيمة فالمادتان (16و17) عقوبات عبارة عن تعريف انواع الجرائم والمشرع اورد نصوصا على سبيل الحصر حددت ادنى مدة واقصى مدة لعقوبة الحبس وبذلك تخرج المادة (16) عقوبات من الحسبان لقاعدة تحديد مدة الحبس في الجرائم الجسيمة فلو كانت كذلك لما حدد المشرع ادنى مدة في المواد (31و131و132و137و141و234و269و301) عقوبات ؛ فاستناد الشعبة التي اصدرت الحكم الى المواد (16و31و234) عقوبات اخرجها عن احكام المادة (235) عقوبات التي حددت سقف العقوبة خمس سنوات وسكتت عن ادناها فاستنتاج الشعبة خروج عن المنطق المعقول !!!) الا ان الدائرة الجزائية قضت برفض الطعن واقرار الحكم الاستئنافي؛ وجاء في اسباب حكم المحكمة العليا (والدائرة تجد ان مناعي الطاعن على الحكم الاستئنافي لا اساس لها من القانون  فالمادة (16) عقوبات عرفت الجرائم الجسيمة وبينت عقوبة الحبس المقررة على فاعلها وهي الحبس  لمدة تزيد على ثلاث سنوات فلا تقل عن ثلاث سنوات وبالعكس من ذلك مفهوم الجريمة غير الجسيمة وبما ان التهم المنسوبة للطاعن هي القتل العمد بموجب نص المادة (234) عقوبات فهي تعد من الجرائم الجسيمة فسقوط القصاص كما ورد في سياق القضية يعود الى عفو ولي الدم وبما تم التصالح عليه وهو الدية اما بالنسبة للعقوبة التعزيرية الواجب القضاء بها في الحق العام فيجب تقديرها بما لا يتناقض مع مفهوم الحد الادنى للعقوبة المقررة للجرائم الجسيمة كما سلف بيانه في المادة (16) عقوبات مقروءة مع نص المادة (235) من القانون ذاته لذلك فان الحكم الاستئنافي المطعون فيه قد جاء موافقا لأحكام الشرع والقانون) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسبما هو مبين في الاوجه الاتية :

الوجه الاول : الحد الادنى للعقوبة وعلاقته بمناسبة العقوبة الموقعة للجريمة المرتكبة :

تتأسس فكرة وجود حد ادنى وحد اعلى للعقوبة على اساس تحقيق خاصية من اهم خصائص العقوبة وهي التناسب بين الجريمة والعقوبة, بمعنى انه يجب ان تكون العقوبة مناسبة او مساوية الى حد ما مع الجريمة التي ارتكبها الجاني حتى تتحقق اغراض العقوبة في الردع العام والخاص, علاوة على ان الافعال المكونة للجريمة لا تكون واحدة وكذا ظروف الجريمة وملابساتها والاثر المترتب على الجريمة ونطاقه , فهذه الاعتبارات تقرر ان هناك فروق بين الجريمة والمجرم في كل جريمة على حدة ؛ فمثلا جريمةالقتل  تعتريها فروق كثيرة فهناك فروق في وسيلة القتل والباعث عليه ومكانه ووقته ...الخ, كما ان هناك فروق بين القتلة  من حيث القصد والعود والاعذار المخففة والعود الى الجريمة ....الخ, وهذا يعني ان جريمة القتل ليست واحدة بكل تفاصيلها وان الجاني فيها  لا يكون مثل القاتل في جريمة قتل اخرى من حيث ظروفه وحالاته, ولذلك فان الاعتبارات والاسانيد قد حتمت ان لا تكون العقوبة واحدة وانما ينبغي ان يكون لها حد ادنى مناسب وحد اعلى مناسب حتى تستوعب العقوبة كل تفاصيل المجرم والجريمة, ونحن لا نعارض ذلك بل نؤيده .

الوجه الثاني : الحد الادنى للعقوبة والتفريد العقابي :

المقصود بالتفريد العقابي ببساطة ان  المتهم في جريمة معينة يختلف عن المتهم الاخر بارتكاب جريمة مثلها؛ فليس السرق جميعهم  على شاكلة  واحدة وكذلك القتلة فكل واحد من هؤلاء له خصوصية معينة ينبغي الاعتراف بها ومراعاتها عند تقدير العقوبة المناسبة له, حتى تكون العقوبة مناسبة وعادلة في وقت واحد, فلا ينبغي في السياسة العقابية المعاصرة تقرير عقوبة واحدة على جناة تختلف ظروفهم وظروف الجرائم التي قاموا بارتكابها والاثار المترتبة عليها ان كانت هذه الجرائم متماثلة؛ ونحن ايضا نؤيد هذا التوجه العقابي لأنه يتفق مع مقتضيات السياسة العقابية المعاصرة .

الوجه الثالث : الحد الادنى للعقوبة والسلطة التقديرية للقاضي :

السلطة التقديرية للقاضي لها اهداف وغايات سامية ؛ فهدفها النهائي تمكين القاضي من تطبيق العقوبة المناسبة على المتهمين بأفعال متماثلة, لان وجود حدين ادنى واعلى للعقوبة يمكن القاضي من اختيار العقوبة المناسبة التي تتناسب مع الجريمة والمجرم في ان واحد, وهذا التوجه نحن نؤيده ولا نعارضه .

الوجه الرابع : منهج القانون اليمني في تحديد الحد الاعلى والادنى للعقوبات :

في سياق محاولة قانون الجرائم والعقوبات اليمني لتحقيق مقتضيات التفريد العقابي والسلطة التقديرية للقاضي الجزائي نجد ان هذا القانون قد اتبع السياسة العقابية الاتية :

1-     تقرير عقوبة واحدة ليس لها حد ادنى او اعلى او تخيير لبعض الجرائم القليلة : مثل عقوبة الاعدام التي قررها القانون بالنسبة لجرائم الاعتداء على استقلال الجمهورية واضعاف قوة الدفاع واعانة العدو والاتصال غير المشروع بدولة اجنبية,.....الخ, وهذه الجرائم قليلة .

2-     تقرير حد اعلى وحد ادنى للعقوبة في جرائم قليلة : مثل عقوبة جريمة تخريب الاموال المتعلقة بالاقتصاد القومي حيث نصت على انه يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد عن عشر سنوات من خرب بنية احداث انهيار في الاقتصاد القومي مصنعا ....), وهذه الجرائم قليلة ايضا .

3-     تقرير حد اعلى فقط للعقوبة دون الحد الادنى بالنسبة لغالبية الجرائم  : وهذه هي غالبية الجرائم و العقوبات في القانون مثل جرائم الاتلاف بغير قصد والاضرار والرشوة والاختلاس.......الخ, ولان القانون لم يحدد لعقوبات هذه الجرائم حد ادنى فقد اضطر القانون لوضع حد ادنى عام لكل عقوبات غالبية الجرائم المنصوص عليها في القانون !!! عن طريق تحديد عقوبات الجرائم التي تندرج ضمن الجرائم الجسيمة  والجرائم التي تندرج ضمن الجرائم غير الجسيمة ولهذا قرر القانون المادتين الخبيثتين (16و17) عقوبات حيث تنص المادة (16) على ان (الجرائم الجسيمة هي ما عوقب عليه بحد مطلقا او بالقصاص بالنفس بابانة طرف او اطراف وكذلك كل جريمة يعزر عليها بالإعدام او الحبس مدة تزيد على ثلاث سنوات) في حين نصت المادة (17) على ان (الجرائم غير الجسيمة هي التي يعاقب عليها اصلا بالدية او بالأرش او بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات او بالغرامة) والتعليق على هاتين المادتين يحتاج الى مجلدات ولذلك فسوف نكتفي بالإشارة الى بعضها ومن ذلك الى ان عقوبة الاعدام ما كانت تحتاج الى وضع حدا لها لأنه ليس لها حد فالغرض من هاتين المادتين اصلا هو تحديد الحد الادنى للعقوبة الذي سكت القانون عن تحديده في اغلب النصوص العقابية حسبما اشارت  اليه اسباب الحكم محل تعليقنا  اضافة الى انه يلاحظ ان المتهمين في جرائم الوظيفة العامة هم المستفيدين مما ورد في المادتين السابق ذكرهما فمثلا تجد ان المادة (151) عقوبات تقرر الحد الاعلى لعقوبة الرشوة وهو عشر سنوات دون ان تشير الى الحد  الادنى حتى لا تستفز مشاعر من يحارب الفساد حيث تحيل الحد الادنى الى المادة (16) وهكذا في بقية جرائم الوظيفة العامة, علاوة على ان تقرير الحد الادنى لغالبية العقوبات الواردة في القانون بحد ادنى واحد يتنافى مع مقتضيات السياسة العقابية المعاصرة, فوضع حد ادنى واحد لغالبية العقوبات يتجاهل الفروق الجوهرية بين غالبية المجرمين والجرائم ويتم التعامل معهم كما لو انهم شخص او فاعل واحد لجريمة واحدة.

الوجه الخامس : الحد الادنى والشعور بالظلم في الحكم محل تعليقنا :

من خلال مطالعة الحكم محل تعليقنا نجد ان الخلاف بشأن الحد الادنى للعقوبة كان اساسه الشعور بظلم القانون وليس ظلم محكمة الموضوع لان الحد الادنى لعقوبة القتل العمد عند عفو اولياء الدم كان  واضحا ولكن الشعور بتهاون القانون وسوء تنظيمه للحد الادنى للعقوبةوعشوائية هذا التنظيم   فاساس الخلاف في الحكم الشعور بظلم القانون وليس ظلم محكمة الموضوع   ولكن الشعور بتهاون القانون وتنظيمه العشوائي للحد الادني هو الذي جعل القاضي الابتدائي يتجاوز نص المادة (16) عقوبات والشعور ذاته هو الذي دفع عضو النيابة للطعن في الحكم الابتدائي والشعور ذاته هو الذي كان الباعث للمتهم نفسه على ان يطعن في الحكم الاستئنافي وان يسوق تلك النصوص في طعنه؛ والله اعلم .