تكييف جريمة السحر في القانون والقضاء اليمني


تكييف جريمة السحر في القانون والقضاء اليمني

أ.د. عبد المؤمن شجاع الدين

الاستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة صنعاء

يقتضي تطبيق نصوص القانون ان تكون هناك افعال وتصرفات ظاهرة للعيان حتى يمكن بيان حكمها في القانون, كما ان احكام القضاء تقام على الظاهر الممكن مشاهدته واثباته, واشكالية السحر انه امر خفي ؛ اضافة الى انه يتداخل مع غيره من المسائل التي تشابهه من حيث اعراضها كخوارق العادة والسيمياء والكيمياء والشعوذة, ولذلك فان هناك صعوبة عملية في تكييف السحر سواء في القانون او القضاء, اما في الشريعة الاسلامية فان حكم السحر وعقوبته محل اتفاق الى حد ما كما سنرى لاحقا, ولان تكييف السحر في القانون والقضاء على هذا النحو من الغموض فقد وجدت انه من المناسب التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 20/5/2013م في الطعن الجزائي رقم (48194) لسنة 1434هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا : ان النيابة العامة اصدرت قرار اتهام اتهمت فيه شخصا بانه يقوم بأعمال السحر والشعوذة والنصب وانه اخذ من احد الاشخاص الذين تعالجوا عنده مبالغ مالية نظير معالجتهم من مس الشيطان ؛ وقد ذكرت النيابة في قرار الاتهام ان المتهم من ارباب السوابق في هذا المجال حسبما ورد في قرار الاتهام؛ وقد اجاب المتهم على قرار الاتهام امام المحكمة المختصة : بان ما يقوم به هو قراءة القران ومعالجة الناس بالقران واخراج الشياطين لمن اراد الله, وعند سؤال المحكمة للمتهم عن المدة التي سبق له الاشتغال فيها بهذه المهنة, فأجاب بانه يعمل في هذه المهنة اكثر من ثمانية عشر عاما, وقد حكمت المحكمة الابتدائية بسجن المتهم سنة كاملة ادبا في الحق العام لثبوت التهمة المنسوبة اليه والزامه بإعادة المبالغ التي اخذها من الشاكين وكذا الزامه بدفع اتعاب المحاماة ومصاريف التقاضي بالإضافة الى مصادرة كتاب شمس المعارف وكتاب الرقية, وقد سببت المحكمة الابتدائية حكمها بانه : بناء على ما ورد في قرار الاتهام ومحاضر جمع الاستدلالات وتحقيقات النيابة وقائمة ادلة الاثبات المتضمنة اعتراف المتهم باشتغاله بهذه المهنة واستلامه مبالغ مالية مقابل قيامه بإخراج الجن من المجني عليه وزوجته وبناته, فلم يقتنع المتهم المحكوم عليه بالحكم الابتدائي حيث قام باستئناف الحكم الابتدائي الا ان الشعبة الجزائية الاستئنافية قضت بتأييد الحكم الابتدائي, وقد جاء في اسباب الحكم الاستئنافي انه من خلال ماورد في  اوراق القضية فقد اتضح  ثبوت الواقعة وثبوت نسبتها الى المتهم, وقد بادر المتهم بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي امام المحكمة العليا  حيث  عاب في ط على الحكم الاستئنافي بانه لم يقم ببحث الافعال التي قام بها المتهم مثل الرقية وحصوله على فائدة مستندا الى المادة (310) عقوبات في حين ان الرقية عمل مشروع بنص الكتاب والسنة وقال المتهم بانه يعالج بالرقية من اتى اليه مصابا بمرض  بما في ذلك المصابون بالمس الشيطاني ولذلك فان المادة (310) عقوبات لا تنطبق باي حال من الاحوال على الفعل الذي صدر من المتهم وتطبيق تلك المادة على فعل المتهم لا يوافق القانون, الا ان الدائرة الجزائية بالمحكمة  العليا اقرت الحكم الاستئنافي مسببة حكمها بانه (من خلال رجوع الدائرة الى ملف القضية والحكمين الصادرين فيها تبين ان ما اثاره الطاعن لا يخرج في مجمله عن كونه  جدلا في الوقائع المنسوبة اليه ونزاع في الادلة التي استندت عليها محكمتا الموضوع في حكمهما وتلك من الامور المتروك تقديرها لمحكمة الموضوع دون معقب عليها من هذه المحكمة وذلك استنادا الى ما قررته المادة (431) اجراءات التي اوضحت ان النقاش في الادلة والجدل في الوقائع مما تختص به محكمتا الموضوع ولا تمتد اليه رقابة هذه المحكمة وكذلك الحال بالنسبة الى قيمة الادلة التي عولت عليها محكمة الموضوع في الاثبات, وحيث ان الطعن المقدم من الطاعن لم تتحقق فيه اية حالة من الحالات المنصوص عليها في المادة (435) اجراءات الامر الذي يقتضي رفض الطعن) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب ما هو مبين في الاوجه الاتية :

الوجه الاول : ماهية السحر والافعال المكونة له  :

من خلال ما ورد في الكتب والمراجع المتخصصة نجد ان كل التعريفات للسحر تتلخص في القول بان السحر هو :

1-     السحر عبارة عن كلمات غير مفهومة يرددها الشخص ويقصد بها معالجة اشخاص اخرين يقصدونه للعلاج من امراض بدنية او نفسية او مس شيطان او غيرها .

2-     السحر هو تلفظ الشخص المتهم بالسحر بكلمات لم ترد في القران الكريم او في السنة النبوية او في الادعية المأثورة ويقصد بها المتلفظ بها معالجة الاشخاص الذين يقصدونه من الامراض التي يعانوا منها وقد يكون قصد المتلفظ بتلك الكلمات  التأليف بين القلوب او التنفير بينها او جلب الاشخاص الى اماكن معينة  او تنفيرهم منها, كما قد يكون القصد من تلفظ الساحر بتلك الكلمات احداث امراض او عاهات او جنون بأشخاص اخرين .

3-     السحر هو كتابات او رسوم يدونها الساحر بقصد معالجة اشخاص من امراض او ايجاد المحبة في قلوبهم لآخرين او ايجاد الكراهية في قلوبهم لآخرين  او يقصد الساحر من كتابة تلك الكلمات والرسوم جنون اشخاص او الحاق الاذى بهم .

4-     السحر هو استعانة الساحر بالجن او الشياطين واستخدامه لهم في علاج الناس او ايجاد المحبة او الكراهية في قلوب الناس  او جلب الامراض والمصائب لآخرين, كما قد يستعين  الساحر لتحقيق الاغراض المشار اليها  بالنجوم والافلاك .

وبناء على ماتقدم  فان كل من يقوم بالأفعال او يقول الأقوال السابق ذكرها يكون قد ارتكب جريمة السحر فيعاقب بالعقوبة المقررة شرعا وقانونا عليها .

الوجه الثاني : ماهية الشعوذة و الافعال المكونة لها :

اشار الحكم محل تعليقنا الى ان الشعوذة كانت من ضمن الافعال المنسوبة للمتهم في القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا حيث كان الشخص متهما بالشعوذة ؛  وذلك يقتضي الاشارة بإيجاز الى ماهية الشعوذة والأفعال المكونة لها ؛ فمن خلال الرجوع الى المراجع  والمصادر المتخصصة يظهر ان الشعوذة تظهر في المظاهر الاتية :

1-     قيام الشخص المشعوذ بالادعاء ان له اتصال بعالم الجن او الارواح وبموجب ذلك فان له القدرة على حل الاشكالات وايجاد المحبة وايجاد الكراهية وجلب المنافع والمصائب للناس, من دون ان يقوم هذا الاشخاص بترديد اقوال او كتابة كلمات او غير ذلك من الافعال المندرجة ضمن افعال السحر المبينة في الوجه الاول من هذا التعليق اما اذا قام بتلك الاقوال والافعال فانه يكون ساحرا وليس مشعوذا .

2-     قيام المشعوذ بتقديم خلطات او تركيبات عشوائية على انها علاجات او مقويات اوغيرها, اما اذا كانت هذه الخلطات قد تم تحضيرها بناء على مقادير معلومة وموصوفة مقاديرها وفوائدها والامراض التي تعالجها فأنها تكون من قبيل  الكيمياء الجائز عملها فلا تكون من الشعوذة.

الوجه الثالث : السيمياء والكيمياء والباراسكلوجيا :

لا تندرج ضمن افعال السحر الافعال الاتية :

1-     السيمياء : وهو في الفقه الاسلامي معرفة بواطن الاشياء عن طريق استقراء العلامات والسمات الخارجيةللاشياء , فذلك جائز لقوله تعالى (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) وقوله تعالى (ان في ذلك لآيات للمتوسمين) وقوله تعالى (سيماهم في وجوههم) وغيرها من النصوص الشرعية, وعلى ذلك فان السيمياء  لا تعد من قبيل السحر اوالشعوذة .

2-     الكيمياء : الكيمياء عند الفقهاء هي اخلاط يقوم بتحضيرها  الكيميائي وفقا لكتب وتجارب ويكون تحضيرها على اساس مقادير  وأوصاف مناسبة لعلاج  الامراض التي , فاذا تم اعداد الخلطات العلاجية  على هذا النحو فان ذلك لا يكون من قبيل السحر كما ان ذلك لايكون من قبيل الشعوذة ؛ اما اذا كانت الخلطات عشوائية فأن هذا الفعل يكون من  قبيل الشعوذة .

3-     الباراسكلوجيا : وهو علم فوق القدرات الحسية الذي يعتمد على تنمية حواس الانسان فتجعله يدرك اشياء لا يدركها غير من لديه هذا العلم, وهذا العلم مزيج من الفراسة والذكاء الصناعي وعلم النفس, فهذا العلم معترف به عالميا وله رجاله المتخصصين فيه ؛ ويستعمله اطباء علم النفس في العلاج, فاذا قام به شخص غير متخصص او لا دراية له بهذا العلم فهو مشعوذ وليس ساحر .

4-     خوارق العادة : وهي القدرات غير المعتادة التي يهبها الله لمن يشاء من عباده اما هبة وكرامة من الله من غير كسب او تحصيل واما يحصل عليها العبد بكسب او تحصيل فقد قال تعالى (الله يجتبي اليه من يشاء ويهدي اليه من ينيب) وقوله تعالى (فاجتباه ربه فجعله من الصالحين)  وغيرها من الايات الكريمات ؛ والغالب ان كل من اجتباه ربه فاكرمه بكرامة فانه لا يعلنها ولا يتكسب بها الا ان بعض المجذوبين او المصلومين يتكسبوا بتلك الكرامات او الجذبات التي يجذبونها من علم الله ؛ وهؤلاء لا يكونوا سحرة طالما انهم لا يقولون ولا يفعلون أي من افعال السحر السابق بيانها .

الوجه الرابع : عقوبة السحر في الشريعة الاسلامية والقانون اليمني :

ذهب غالبية الفقهاء الى ان عقوبة الساحر القتل لقوله صلى الله عليه وعلى اله وسلم (حد الساحر ضربة بالسيف) وعند الزيدية السحر حد مستقل عن غيره من الحدود ولذلك يقتل الساحر حدا لمجرد اتيانه السحر, وعند الحنفية والمالكية والحنابلة والاباضية والشيعة الامامية يقتل الساحر ويكون قتله ضمن حد الردة لان افعال السحر من وجهة نظر هولاء تندرج ضمن الردة , وعند الشافعية لا يقتل الساحر الا اذا قتل بسحره أي قصاصا, اما قانون الجرائم والعقوبات النافذ فلم ينص على عقوبة السحر كعقوبة مستقلة للسحر وانما هي تندرج ضمن افعال الردة, لان كثير من افعال السحر تندرج ضمن افعال الردة كالاستعانة بغير الله اضافة الى ان طرق تعلم السحر تكون في الغالب من افعال الردة مثل الانتعال بالقران الكريم او كتابته بدم نجس عياذا بالله ؛   ومن خلال المطالعة لوقائع القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا نجد ان النيابة العامة اتهمت المتهم بالسحر الا ان المحكمة لم تحكم عليه بعقوبة السحر لأنه لم يقم بأي من افعال السحر السابق ذكرها  .

الوجه الخامس : العلاج بالقران الكريم والرقية :

العلاج بالقران الكريم وكذا الرقية لا يكون من قبيل السحر او الشعوذة ؛ فالقران الكريم شفاء لكل الامراض والعلل عملا بقوله تعالى (قل هو للذين امنوا هدى وشفاء) وكذلك الرقية حق, ويجوز للمعالج والراقي ان يأخذ اجرا نظير قيامه بالرقية او العلاج ؛ والنصوص الشرعية في هذا الباب كثيرة ومعلومة لا حاجة لسردها في هذا التعليق الموجز, ومن خلال مطالعة وقائع الحكم محل تعليقنا نجد ان المتهم قد حاول نفي تهمة السحر والشعوذة الموجهة اليه بقوله : ان كل ما يعمله هو العلاج بالقران والرقية, الا انه كان من الثابت في اوراق القضية انه كان يقوم بأعمال الشعوذة والاتصال بالجن والخدام .

الوجه السادس : الشعوذة والنصب :

من خلال مطالعة وقائع الحكم محل تعليقنا نجد ان قرار الاتهام كال للمتهم تهم عدة منها السحر والشعوذة والنصب والاحتيال الا ان قرارالاتهام قد استند الى نص المادة (310) عقوبات المتضمنة عقوبة الاحتيال ؛ حيث نصت هذه المادة  على انه (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات او بالغرامة من توصل بغير حق الى الحصول على فائدة مادية لنفسه او لغيره وذلك بالاستعانة بطرق احتيالية (نصب) او اتخذ اسم كاذب او صفة غير صحيحة) وعند التأمل في هذا النص القانوني ومحاولة تطبيقه على افعال الشعوذة السابق ذكرها نجد ان هذا النص ينطبق عليها؛ فالمشعوذ نصاب ومحتال يدعي ادعاءات كاذبة بشأن قدراته وامكانياته لإيهام الضحايا والايقاع بهم ؛ ولكنه لا يكون ساحرا لعدم قيامه بأي فعل من افعال السحر, ولذلك فان الشعوذة تندرج ضمن افعال النصب والاحتيال؛ والله اعلم.