تطابق الحكم مع محاضر الاستدلال والتحقيق

 

تطابق الحكم مع محاضر الاستدلال والتحقيق

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

من المفاهيم المعلومة والمفهومة ان محاضر اثبات الجريمة تتدرج فيأتي محضر جمع الاستدلالات في البداية حيث يتضمن إثبات وقوع الجريمة وساعة ومكان ذلك والادلة التي تم ضبطها وإثبات اقوال المتهم والاشخاص الذين تصادف وجودهم في مسرح الجريمة، وبعد يقوم مأمور الضبط القضائي بإحالة محاضر جمع الاستدلالات إلى النيابة العامة التي تتولى التحقيق الابتدائي وفي ضوء ذلك تتصرف النيابة في القضية فاذا وجدت ان أدلة الإدانة كافية فإنها تقوم بإحالة القضية إلى المحكمة الجزائية وبدورها تقوم محكمة الموضوع بإجراء التحقيق النهائي باعتبارها جهة الحكم يتوجب عليها التأكد والتثبت مما ورد في المحاضر السابقة سواء أكانت محاضر جمع الاستدلالات أم محاضر تحقيق، وفي ضوء التحقيق النهائي الذي تجريه محكمة الموضوع تصدر حكمها، هذا الامر محل اتفاق في العالم أجمع وكذا في اليمن من الناحية النظرية فقط اما واقع الحال فان النيابة العامة تستلهم معالم الجريمة وأدلتها مما ورد في محاضر جمع الاستدلالات وكذلك الحال بالنسبة لبعض  القضاة الجزائيين الذين يتعاملون مع محاضر التحقيق بإعتبارها حجة مطلقة لانها محررات رسمية وفقاً لأحكام القانون،ففي هذه الحالة فان التحقيق النهائي الذي  تجريه محكمة الموضوع المختصة لا يؤدي الغاية التي ابتغاها القانون،  لان القاضي الجزائي نفسه في هذه الحالة يكون مقيدا في حكمه بنتائج محاضر جمع الاستدلال ومحاضر التحقيق الابتدائي اذا تم اشتراط التطابق بين التحقيق  النهائي  بين ما ورد في محاضر جمع الاستدلالات ومحاضر التحقيقات ، ولبيان هذه المسالة فقد اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 27/1/2013م في الطعن الجزائي رقم (44105) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم أن النيابة العامة قدمت للمحاكمة الجزائية امرأتين احداهما متهمة باخذ مفتاح منزل اختها المتزوجة وسرقت ذهبها (كمية كبيرة) ثم قامت بتسليم الذهب المسروق الى المتهمة الثانية التي قامت ببيع الذهب في السوق،  وقد حكمت المحكمة الابتدائية ببراءة المتهمتين على أساس ان هناك شك في الادلة والشك يفسر لمصلحة المتهم، فقامت النيابة باستئناف الحكم فقامت الشعبة باجراء التحقيق النهائي في القضية ومن خلال ذلك توصلت الى ثبوت جريمة السرقة التعزيرية لانه قد ثبت للشعبة من خلال التحقيق النهائي الذي اجرته ان المتهمة الأولى استغلت قرابتها من اختها المتزوجة وحصلت على مفتاح منزلها في غيابها والدخول الى المنزل ووضع المسروقات في كيس دعاية كبير وخروجها من المنزل ومعها الكيس الذي كانت تصطحبه معها حتى اثناء دخولها الحمام ثم قيامها بتسليم الذهب المسروق بصفته وكمياته الى المتهمة الثانية التي كانت عالمة بالسرقة ومع ذلك قامت ببيع الذهب، واستناداً الى ذلك فقد  قضت الشعبة الجزائية بتعديل الحكم الابتدائي من البراءة الى الادانة وحبسهما، فلم تقبل المتهمتان بالحكم الاستئنافي فقامتا بالطعن فيه بالنقض أمام الدائرة الجزائية التي قبلت الطعن ونقضت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن اسباب حكم المحكمة العليا (اما من حيث الموضوع فان الدائرة بعد رجوعها الى الأوراق مشتملات الملف وجدت أن ما عللت به محكمة الاستئناف حكمها بأخذ المتهمة الاولى مفتاح المنزل المسروق والمبيت فيه والعودة اليه للترويش وحرصها الشديد على كيس الدعاية حتى عند دخولها الحمام كونها مأذوناً لها بدخول المنزل وانها قد سلمت الذهب إلى المتهمة الثانية لبيعه والتي قامت ببيعه فعلاً في السوق ،فقد وجدت الدائرة أن كل ذلك لا يتفق مع المحاضر لان ماورد في المحاضر  ينفي التهمة المنسوبة الى المتهمة الاولى أما المتهمة الثانية ففي اقوالها أن أمراة اخرى هي التي ناولتها ذلك الذهب لتبيعه لها في السوق، فمن خلال ذلك فقد استظهرت الدائرة ان ما سارت اليه الشعبة الجزائية تسبيباً ومنطوقاً بعيد عما في المحاضر من الأقوال والشهادات والاستدلالات الامر الذي يجعل الحكم الاستئنافي باطلاً يستحق النقض) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول : دور محاضر جمع الاستدلالات وحجيتها :

اشارت المادة (91) إجراءات الى أن مأمور الضبط القضائي مكلف بفحص البلاغات والشكاوى وجمع الاستدلالات والمعلومات المتعلقة بها واثباتها في محاضر وارسالها الى النيابة العامة، وبناءً على ذلك يتوجب على مأمور الضبط القضائي اعداد محضر جمع الاستدلالات، وفي السياق ذاته أوجبت المادة (92) إجراءات على مأمور الضبط القضائي ان يستمع أقوال من تكون لديه معلومات عن الوقائع وان يثبت ذلك في محضر جمع الاستدلالات وان يقوم مامور الضبط بالتوقيع عليه هو والشهود الذين استمعهم، ومن المعلوم ان محاضر جمع الاستدلال ليس لها حجية المحاضر القضائية ولذلك فان بعض مأموري الضبط القضائي وجهات الضبط القضائي تلجاء الى تدعيم هذه المحاضر عن طريق استدعاء شهود للاستماع  الى اقوال المتهمين وتوقيع الشهود على المحاضر والغرض من هذه الشهادات اثبات رضاء واختيار المتهم وعدم اكراهه او اجباره على الادلاء بأقواله، ومن خلال ما تقدم يظهر ان دور محضر جمع الاستدلالات يقتصر على اثبات الادلة التي تم العثور عليها أو جمعها في مكان وقوع الجريمة ومنها الاستماع الى اقوال المتهمين والشهود الموجودين في مسرح الجريمة وكل من تتوفر لديه المعلومات والبيانات عن الجريمة ،فهذا المحضر ليس محضر تحقيق مع أنه يتضمن اثبات أقوال المتهم والشهود، لان القانون اشار الى استماع مأمور الضبط للأقوال وليس التحقيق فيها، وعلى هذا الاساس فان ما يرد في محضر جمع الاستدلالات ليس ملزماً للنيابة العامة التي تجري التحقيق الابتدائي كما انه غير ملزم لمحكمة الموضوع التي تجري التحقيق النهائي، فالفقه العربي يقرر ان محاضر جمع الاستدلال لاتعد دليلا او  حجة  في الاثبات بالنسبة لسلطة التحقيق والمحاكمة، كما قضت محكمة النقض المصرية ان محضر جمع الاستدلال خاضع لتقدير سلطة التحقيق وسلطة المحكمة(الاجراءات الجزائية،د مامون سلامة،ص416 )واسناد مهمة تحرير محضر جمع الاستدلال الى مامور الضبط القضائي لانه  اكثر اتصالاً بمسرح الجريمة واماكن اقامة المتهمين، وبحكم وظيفته تتوفر لديه القدرة والكفاءة والسرعة اللازمة لجمع الاستدلالات قبل العبث بها أو ضياعها.

الوجه الثاني : دور وحجية محاضر التحقيق الابتدائي الذي تجريه النيابة العامة :

من خلال عرض النصوص القانونية التي تناولت مضمون ومحتويات محاضر جمع ال نجد أن القانون قد ذكر ضمن الاستدلالات التي يتم جمعها ذكر الاستماع الى اقوال المتهم او الشهود او الاشخاص الذين تتوفر لديهم معلومات او بيانات عن الجريمة،وقد ذكرنا ان ماورد فيها غير ملزم للنيابة العامة ، ولذلك فان دور التحقيق الابتدائي الذي تجريه  النيابة العامة هو التحقق من استيفاء مأمور الضبط القضائي للاستدلال وانه يحق  لعضو النيابة ان يقوم باستيفائها بنفسه حسبما ورد في المادة (93) إجراءات ،ولجسامة العقوبة في الجرائم الجسيمة فقد أوجبت المادة (110) إجراءات على النيابة التحقيق فيها بخلاف الجريمة غير الجسيمة التي اجازت المادة (111) إجراءات ان ترفعها النيابة الى المحكمة المختصة  بموجب محضر الاستدلال ، كما أوجب القانون تدوين  التحقيق في محضر وانه لا يجوز الكشط والحشر في المحضر وانه يجب على المحقق تمكين الخصوم من تقديم أوجه دفاعهم وعلى المحقق اثباتها وتحقيقها حسبما ورد في المواد (119 و 120 و 125) إجراءات ، ومن خلال المقارنة بين النصوص الناظمة للتحقيق الابتدائي بنظر النيابة العامة نجد أن محضر التحقيق أكثر عمقاً واتساعاً من محاضر جمع الاستدلال، ولذلك فان عضو النيابة يعيد طرح الاسئلة التي سبق ان وجهها مأمور الضبط القضائي الى المتهم اثناء مرحلة الاستدلال وكذا الشهود حتى يقف عضو النيابة على التفاصيل والمعلومات اللازمة التي يقدمها المتهم وغيره عند  أجاباتهم على اسئلة المحقق وحتى يتحقق عضو النيابة من حقيقة وصحة الاقوال الواردة في محاضر جمع الاستدلالات، ويقرر القانون أن محاضر التحقيق التي تحررها النيابة محررات رسمية له حجيتها باعتبارها من المحررات الرسمية.

الوجه الثالث : دور التحقيق النهائي الذي تجريه محكمة الموضوع :

لاريب  ان المحاكمة هي التحقيق النهائي الذي يلي التحقيق الابتدائي، حيث تقوم المحكمة بقراءة اقوال المتهم خلال مرحلة التحقيق الابتدائي أو في محاضر جمع الاستدلال وكذا تلاوة اقوال الشهود في محاضر جمع الاستدلال ومحاضر التحقيق وفي اثناء ذلك تجري محكمة الموضوع التحقيقات اللازمة للتحقق والتاكد من سلامة الادلة، وفي هذا الشأن تقرر المادة (264) إجراءات على أن (تلتزم المحكمة عند نظر القضية بان تبحث بنفسها مباشرة الادلة فتستجوب المتهم والمجني عليه والشهود والمدعي بالحق المدني والمسئول مدنياً وتستمع الى تقارير الخبراء وتفحص الادلة المدنية وتتلو المحاضر وغير ذلك من المستندات وتخضعها للمناقشة الشفوية) وهذا هو التحقيق النهائي الذي تجريه  محكمة الموضوع حتى تقف على الحقيقة ويكون حكمها عنواناً للحقيقة، وفي هذا التحقيق فان المحكمة غير ملزمة بالاخذ بما ورد في محاضر جمع الاستدلالات أو محاضر التحقيق فقد يظهر لها من خلال التحقيق الذي تجريه  أن المتهم بري وقد يظهر لها  أنه مدان، فلها السلطة التقديرية في ذلك طالما والمحكمة قد حققت وناقشت الادلة.

الوجه الرابع : مدى اشتراط التطابق بين ما ورد في كل من محاضر جمع الاستدلالات ومحاضر التحقيق الابتدائي  وماورد في  الحكم :

من خلال العرض السابق ظهر لنا ان النيابة العامة غير ملزمة بما يرد في محاضر جمع الاستدلالات وان جاز لها الاخذ بما ورد فيه بعد التحقق من سلامته وصحته، وكذا ظهر لنا أن المحكمة غير ملزمة بنتائج التحقيق الابتدائي الذي تجريه النيابة العامة طالما والمحكمة تقوم بإجراء التحقيق النهائي في ضوء ما ورد في محاضر جمع الاستدلالات ومحاضر التحقيق ،وان للمحكمة أن تأخذ بما ورد في تلك المحاضر أو تطرحه وانها صاحبة السطلة التقديرية في ذلك، ومن خلال ذلك يظهر لنا أنه لا يشترط التطابق بين نتائج كل من محضر جمع الاستدلال ومحضر التحقيق والتحقيق النهائي، وان هذا التطابق سيكون تكريسا للظاهرة السلبية السائدة والمغلوطة التي تجعل عضو النيابة في تحقيقه يترسم خطى مأمور الضبط القضائي وتجعل قاضي الموضوع يقتفي  اثار عضو النيابة ومأمور الضبط، ولا ريب ان ما عنته المحكمة العليا في حكمها محل تعليقنا هو ان يكون للحكم أصل في أوراق القضية سواء أكانت هذه الأوراق حصيلة محضر جمع الاستدلال أو محضر التحقيق أو توصلت اليه المحكمة مصدرة الحكم من خلال بحثها وتحقيقها اثناء المحاكمة، فقد تتحصل محكمة الموضوع على أدلة لم يرد ذكرها في محضر جمع الاستدلال أو محاضر التحقيق فليس هناك مانع قانوني يحول دون اخذ محكمة الموضوع بها، والله اعلم.