تكييف جريمة خيانة الأمانة

 

تكييف جريمة خيانة الأمانة

أ.د عبد المؤمن شجاع الدين

الاستاذ بكلية الشريعة والقانون بجامعه صنعاء

الحكم محل تعليقنا هو الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 18/7/2017م في الطعن الجزائي رقم 58497 ك لسنة 1438هـ وتتلخص وقائع القضية موضوع هذا الحكم في ان احد الاشخاص سلم اخر مبلغ اربعين الف دولار للمضاربة فيها ورفض إعادة المبلغ وتبعاً لذلك فقد ضم ذلك المبلغ الى ماله وتحققت بذلك أركان جريمة خيانة الأمانة ، وقد رد الشخص المستلم للمبلغ بأنه قد قام بإيداع المبلغ في جمعية سمكية بعدن لاستثمارها إلا أنه قد تعذر عليه إستعادة المبلغ بسبب الظروف التي تشهدها عدن وأضاف بأن العلاقة فيما بينه وبين صاحب المبلغ هي علاقة تجارية تختص بها المحكمة التجارية وليس النيابة العامة فعقب عليه صاحب المبلغ المشار اليه بأن المبلغ بعهدة المستلم له مدة خمس عشرة سنة وهو يجحده، وقد خلصت محكمة أول درجة إلى إدانة الشخص الذي استلم المبلغ بجريمة خيانة الأمانة والحكم بحبسه مدة سنة مع وقف التنفيذ بإعادة المبلغ إلى صاحبه ، وقد قام المحكوم عليه باستئناف الحكم الابتدائي إلا أن الشعبة الجزائية أيدت الحكم الإبتدائي فقام المحكوم عليه بالطعن بالنقض حيث قضت الدائرة الجزائية بأنه (من الواضح أن قول الطاعن من أن القضية تجارية قول مخالف للثابت في الأوراق وقد سبق للطاعن إثارة ذلك أمام محكمتي الموضوع وقد فصلت فيه محكمة ثاني درجة في الصفحتين الثامنة والتاسعة من حكمها بما تطمئن إليه الدائرة ، أما نعي الطاعن ببطلان قرار الإتهام وما ترتب عليه لاستدلاله بنص المادة (218) عقوبات في تكييفه للجريمة المنعدمة التي لا محل لها في الواقع فالواضح أن ما أثاره الطاعن بهذا الخصوص هو من باب المغالطة والتضليل فالنيابة قد استندت في قرارها الى نص المادة (318) عقوبات وليس للمادة (218) عقوبات وذلك ما اكدته محكمة أول درجة في نهاية حيثيات حكمها بالقول ( من الثابت ان المتهم قد تسلم المبلغ على سبيل الامانة وحازه لنفسه مدة تزيد على ثلاث عشرة سنة وما أظهره من الجحود كافٍ لقيام المسئولية الجنائية وتحقق عناصر الجريمة لذلك وعملاً بأحكام المواد 17 و 318 عقوبات...الخ) أما بقية ما تضمنته عريضة الطعن فلم يكن سوى مناقشة موضوعية في حقيقة الوقائع التي أقتنعت بثبوتها محكمة الموضوع وهو ما تستقل بتقديره ولا تمتد اليه رقابة هذه المحكمة ما دام استنتاجها سائغاً وموافقاً للقانون الامر الذي يتعين معه القول بسلامة ما ذهبت إليه محكمة الاستئناف في حكمها المطعون فيه مما يستوجب رفض الطعن موضوعاً ) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم بحسب الأوجه الآتية:

الوجه الاول : تكييف جريمة خيانة الامانة في القانون:

التكييف هو التسمية القانونية أو الوصف القانوني للفعل الجرمي ، وقد أطلق قانون الجرائم والعقوبات تسمية (خيانة الامانة) وجعلها عنواناً للمادة (318) التي نصت على ان ( يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات من ضم الى ملكه مالاً منقولاً مملوكاً للغير سُلم اليه بأي وجه) ومن خلال استقراء هذا النص القانوني نجد أن الركن المادي يتحقق بقيام الشخص بضم المال المنقول الى ماله ولفظ الضم عاماً يشمل قيام الشخص بإيداع المال في وديعة بنكية او حساب مصرفي او استثماري او تمويل لمشروع بأسم الشخص او استعمال المال في شراء بناية او بناء بناية او شراء سيارة او صيدلية او بقالة او ورشة او شراء أسهم أو غير ذلك مما يكون ملكاً خاصاً وخالصاً باسم الفاعل ولحسابه او تبديد هذا المال او استهلاكه، وعند تطبيق هذا المفهوم على الواقعة التي تناولها الحكم محل تعليقنا نجد ان الفاعل قد تسلم من المجني عليه المبلغ المشار اليه وذكر انه قام باستثماره باسمه ولحسابه في جمعية سمكية وعلى افتراض صحة ما ذكره الفاعل فان ذلك لايغير من الوصف القانوني للفعل بأنه جريمة خيانة أمانة طالما انه قد ضم المبلغ الى ملكه وبذلك فقد تحقق الركن المادي لجريمة خيانة الامانة ، وتبعاً لذلك فقد تحقق الوصف او التكييف القانوني للواقعة او الفعل على انه خيانة الأمانة ،لأن التصرف الذي تم بين الجاني والمجني عليه يعد من عقود الأمانة وهذا ما ذهب اليه الحكم محل تعليقنا حيث انه لم يلتفت الى ما ذكره المحكوم عليه الطاعن بان الفعل من قبيل المضاربة.

الوجه الثاني : القصد الجنائي في جريمة خيانة الأمانة :

من خلال مطالعة ودراسة الحكم محل تعليقنا نجد أن الجاني والمجني عليه قد أقرا في أثناء سير المحاكمة أن المبلغ الذي تسلمه الجاني كان بغرض المضاربة بمعنى أن يبذل الجاني جهده ووقته في تشغيل المبلغ في أي عمل تجاري او استثماري بحيث يكون العائد من ذلك للطرفين بحسب الاتفاق المبرم بينهما ولو تم تنفيذ هذا الاتفاق لما تحقق القصد الجنائي لجريمة خيانة الأمانة ولكن الجاني ظل يماطل ويسوف طوال فترة تزيد على ثلاثة عشر عاماً وطوال هذه الفترة ظل يجحد المجني عليه كلما قام بمطالبته بحقوقه ، وهذه الواقعة تثير اشكالية في غاية الخطورة وهي : وقت تحقق القصد الجنائي لدى الجاني في ضم مال الغير المنقول الى ملكه لأنه يشترط توفر القصد العام وهو العلم والإرادة إضافة إلى القصد الخاص المتمثل في نية التملك للمال المسلم إلى الجاني– بمعنى هل يُشترط أن يتحقق القصد وقت استلام الجاني للمبلغ ؟ بحيث اذا كان وقت استلام قاصداً المضاربة أو استثمار المبلغ بالفعل فعندئذٍ لا تكتمل أركان الجريمة لعدم توفر القصد – أم أن ركن القصد يتحقق اذا تغير قصد الفاعل حيث لا يقصد عن الاستلام للمبلغ الضم لمال وبعدئذ يتغير قصده حيث يقرر لاحقاً ضم المال الى ملكه كما حصل في الواقعة التي تناولها الحكم! وللاجابة على ذلك نجد ان هناك اتجاهان في هذه المسألة تناولها الدكتور/نبيه صالح في رسالته القيمة لنيل الدكتوراة (النظرية العامة للقصد الجنائي) حيث ذكر بأن هناك من يرى بان القصد ينبغي ان يتحقق عند القيام بالفعل او قبله لأن الفعل لا يمكن وصفه بعدم المشروعية الا اذا اقترن به القصد ، في حين يذهب اتجاه اخر الى ان اقتران القصد لا يشترط في كل الجرائم حيث يسأل الشخص جزائياً اذا ظهرت لاحقاً على الفعل قرائن تدل على تغير قصده من استثمار المبلغ او المضاربة فيه الى ضم المبلغ الى ملك المستلم، ويعتنق غالبية الفقه الاسلامي هذا الاتجاه ، وقد ذهب الحكم محل تعليقنا الى الاخذ بهذا الاتجاه ونحن نؤيده في ذلك ، لأن الغالب في الحالات المماثلة لتلك التي تناولها الحكم  ان لا تظهر فيه النوايا الحقيقية للاشخاص الا بعد تمام الركن المادي أو الفعل ، والله أعلم.