تطابق نسخة الحكم مع مسوّدته

 

تطابق نسخة الحكم مع مسوّدته

أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

من الإشكاليات العملية الواقعية عدم تطابق نسخة الحكم مع مسوّدته في بعض الحالات، وترجع هذه الإشكالية إلى الاختلاف في مفهوم التطابق ذاته ،فهناك من يفهم هذا التطابق من الناحية اللفظية، بمعنى أنه يرى وجوب تكون نسخة الحكم مطابقة في الفاظها لمسوّدته، وهناك من يفهم هذا التطابق على أساس انه تطابق في المعنى وليس في الالفاظ، فاذا كان المعنى واحد في النسخة الاصلية للحكم ومسودته فقد حصل التطابق، ولأهمية هذه المسألة فقد اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 6/1/2013م في الطعن المدني رقم (46542) وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم أن احد الاشخاص قام بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي أمام المحكمة العليا وذكر ضمن أسباب طعنه أن نسخة الحكم الاستئنافي الاصلية غير مطابقة لمسوّدته وأن هذا السبب مبطل للحكم، إلا أن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا رفضت ذلك، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا (فقد تبين للدائرة أن الطاعن ينعي على الحكم الاستئنافي التناقض الجوهري في منطوقه بين ما ورد في نسخة الحكم الأصلية وبين ما ورد في مسوّدة الحكم ذاته حيث ورد في المنطوق في مسودة الحكم قبول دعوى البطلان في حين ورد في المنطوق في نسخة الحكم الاصلية عدم قبول دعوى البطلان موضوعاً، وبرجوع الدائرة إلى أوراق القضية فقد وجدت أن مناعي الطاعن بشأن التناقض الجوهري بين ما ورد في مسودة الحكم ونسخة الحكم الأصلية وجدت الدائرة ذلك النعي يخالف الثابت في الأوراق حيث أن منطوق الحكم مطابق لما ورد في مسودة الحكم) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الاوجه الأتية :

الوجه الأول : ماهية مسوّدة الحكم والغرض منها وحجيتها ومشتملاتها :

المسوّدة عبارة عن وثيقة يقوم القاضي بافراغ الحكم من ذهنه وتدوينه في تلك الوثيقة بخط القاضي، فالمسودة عبارة عن نتيجة إحاطة القاضي وفهمه لوقائع القضية وطلباتها وادلتها واقوال الخصوم ودفوعهم ودفاعهم الجوهري ومناقشتها في سياق أسباب الحكم والانتهاء إلى صياغة منطوق الحكم، وبناء على ذلك فان المسوّدة بمثابة خروج للحكم من عقيدة القاضي وذاكرته وكتابته في وثيقة، فهذا يعني وجود الحكم في صفحات المسوّدة بعد أن كان غائباً في ضمير القاضي وذاكرته، ولذلك فان المسوّدة بمثابة إثبات لوجود الحكم، وبدون ذلك لا يكون الحكم موجوداً، وبعد تحرير المسوّدة تخضع لمراجعة القاضي وتصويباته واستدراكاته، وتتم هذه العملية بصفة سرية وفقاً لأحكام القانون حتى يحين ميعاد النطق بالحكم فيتم اعلان الحكم واشهاره وخروجه من المسودة إلى الملاء في جلسة علنية تتم فيها تلاوة مسودة الحكم التي تشتمل على اسبابه ومنطوقه، وبالنطق بالحكم من واقع المسوّدة تنتهي ولاية القاضي في القضية فلا يحق ان يزيد أو ينقص مما ورد في المسوّدة ، وتشتمل المسوّدة كما ذكرنا على أسباب الحكم ومنطوقه ولاتشتمل على وقائع الحكم او إجراءات المحكمة، لان المسوّدة هي الحكم دون الوقائع التي هي عبارة عن إثبات حضور الخصوم واقوالهم ومرافعاتهم فضلاً عن أن وقت النطق بالحكم لا يتسع لتلاوة وقائع الحكم عند النطق به، ولا يحق للخصوم الحصول على نسخ من المسوّدة وان جاز لهم الاطلاع عليها.

الوجه الثاني : ماهية نسخة الحكم الاصلية والغرض منها وحجيتها :

نسخة الحكم الأصلية أو الرسمية هي وثيقة يتم تحريرها وفقاً للنموذج المعد لهذا الغرض تتضمن البيانات التي اشترطها القانون مثل اسم المحكمة والقاضي وتاريخ الحكم ورقم القضية واقوال الخصوم ومرافعاتهم وادلتهم واسباب الحكم ومنطوقه، ومن خلال المقارنة بين مشتملات المسوّدة ومشتملات نسخة الحكم نجد أن النسخة تشتمل على بيانات الحكم كاملة كما أنها تشتمل على إثبات حضور الخصوم ومرافعاتهم وادلتهم بخلاف المسوّدة التي تشتمل فقط على أسباب الحكم ومنطوقه، وان تكونت نسخة الحكم من مكونات عدة إلا أن اهم مكونات نسخة الحكم هو الاسباب والمنطوق اللذين تم نقلهما من واقع مسوّدة الحكم، ويفترض أن تتم صياغة الاسباب والمنطوق في نسخة الحكم على نحو مطابق تماماً لما ورد في المسوّدة.

الوجه الثالث : أهمية التطابق بين مسوّدة الحكم ونسخته :

للتطابق بين المسوّدة والنسخة أهمية بالغة، نلخيصها كما يأتي :

1-     التطابق دليل على عناية القاضي اثناء صياغته للمسوّدة ومراجعته لها اكثر من مرة وان القاضي قد  استفرغ جهده ومهاراته القانونية والقضائية واللغوية عند اعداد المسودة ، فلم يكن بحاجة في اثناء تحرير نسخة الحكم إلى إجراء أية تعديلات أو تصويبات أو استدراك أية أخطاء أو إضافة أية عبارات أو جمل أو اسباب او غيرها.

2-     التطابق ينفي عن القاضي تهمة التبديل والتغيير في حكمه  المدون كتابة في المسودة الذي تلاه من واقع مسوّدته، لان أي تغيير في نسخة الحكم لما ورد في المسوّدة يثير شكوك وظنون الخصوم حيث يتم تفسير هذا الاختلاف فيما بين المسوّدة والنسخة على أنه دليل على ميل القاضي وهواه وعدم حياده ...الخ، ولذلك يحرص بعض الخصوم على تسجيل نطق القاضي بالحكم حتى يتم التأكد لاحقاً عما اذا كان منطوق الحكم وأسبابه موافقا لما ورد في نسخة الحكم الاصلية التي يتم تحريرها لاحقاً، وفي بعض الاحيان تتسبب نتائج المقارنة عن حرج بالغ لبعض القضاة.

3-     التطابق تطبيق دقيق وأمين لمبدأ انتهاء ولاية القاضي بالنطق بالحكم، فمجرد أن ينطق القاضي بالحكم من واقع مسوّدته تنتهي ولايته فلا يحق له الزيادة او النقصان في نسخة الحكم الاصلية عما ورد في مسودة الحكم .

4-     يتسبب عدم التطابق بين النسخة والمسوّدة في زيادة نسبة الطعون حيث يبحث غالبية الخصوم في اليمن عن أي سبب او وليجة للطعن في الحكم ولو لم يكن السبب وجيهاً، فعدم التطابق يوفر للخصوم وليجة للطعن بالحكم.

5-     بعض الخصوم يصل به الأمر إلى اتهام القاضي بتزوير الحكم وتغييره ويتوسل في اتهامه هذا إلى أن الحكم قد تم النطق به في جلسة علنية كما هو في مسوّدته وبناء على ذلك فان أي تغيير في نسخة الحكم عما ورد في المسوّدة يكون تزويراً أو تغييرامن وجهة نظر بعض الخصومً.

الوجه الرابع : تطابق الالفاظ والمعاني بين المسودة ونسخة الحكم :

مع التأكيد على ما ورد في الوجه السابق فان غالب الأحكام لا تتطابق حرفياً مسوداتها مع نسخها الأصلية لان المقصود بالتطابق هو تطابق مدلول ومعنى الكلمات والجمل فقد ترد في مسوّدة الحكم عبارة او جملة او فقرة بالفاظ معينة في حين ترد في نسخة هذه الجمل او العبارات بالفاظ تختلف لفظيا عما ورد في المسودة لكنها تتفق في معناها ففي هذه الأحوال لا تتغير معان الجمل، ولذلك فان النسخة تكون مطابقة مع المسوّدة لان المعنى واحد فيهما لان العبرة بالمعاني لابالاشكال والمباني ، مع التأكيد على ان هناك مصطلحات لها معان  محددة لا تحتمل أية معان أخرى وعندئذ يجب تطابق هذه المصطلحات في المسوّدة والنسخة، والله اعلم.