جريمة تقادم جرائم المال العام في اليمن
أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء
لا شك خضوع جرائم المال العام جريمة بذاتها والأكثر جرما ان يقرر قانون الجرائم والعقوبات النافذ ذلك على خلاف القوانين في الدول المختلفة التي تقرر عدم تقادم الجرائم التي تقع على المال العام حماية للمال العام وحفظاً له من العبث والضياع وحتى يتسنى للجهات المختصة الملاحقة القانونية والادارية والقضائية للجناة على المال العام واستعادة الاموال العامة، ولذلك تقضي الأحكام القضائية بتقادم الجرائم التي تقع على المال العام ، ولأهمية هذا الموضوع ولغرض تقديم التوصيات المناسبة فقد اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 8/3/2011م في الطعن الجزائي رقم (40385) لسنة 1430هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم أن النيابة العامة أتهمت أحد الاشخاص بخيانة الامانة عن طريق الاستيلاء على مشروع مياه أحدى المناطق حيث قام المتهم بضم إلى ملكه مالاً عاماً منقولاً هو عبارة عن مضخة ماء وشبكة خط أنابيب مملوكة للدولة ممثلة بالهيئة العامة لمياه الريف الذي بنته الهيئة لأهالي احدى المناطق كمشروع للمياه يمدهم بمياه الشرب حيث قامت الهيئة بتسليم المشروع إلى ممثلي الأهالي الذي قام احدهم بتسليمه لاحقاً إلى المتهم الذي استولى عليه واستأثر به لنفسه لسقي مزارع القات الخاصة به ولم يمد الأهالي بماء الشرب، الأمر المعاقب عليه وفقاً للمادتين (17 و 318) من قانون العقوبات حسبما ورد في قرار الاتهام، وبعد ان سارت المحكمة الابتدائية في إجراءات نظر القضية توصلت إلى الحكم (بانقضاء الدعوى الجزائية في مواجهة المتهم بالتقادم هذا في الحق العام اما في الحق الخاص فعلى المتهم تسليم جميع محتويات المشروع من مكينة وخزان وغزال وغطاس وشبكة خط الأنابيب تسليمها إلى المجلس المحلي وعلى المتهم رفع يده من المشروع وشمولية الحكم بالنفاذ المعجل لان المشروع للدولة وإعادة ملف القضية الى النيابة العامة للتنفيذ) وقد ورد في اسباب الحكم الابتدائي (ولما كان الحال كذلك وكان الثابت للمحكمة من خلال اعتراف المتهم بأنه استلم مشروع المياه وانه تعهد بانه سوف يمد الأهالي بالمياه مجاناً مقابل أن يقوم بالتصرف بالماء الزائد عن حاجة الأهالي وأن يلتزم بصيانة المشروع وإصلاحه إلا أنه لم يقم بمد الأهالي بمياه الشرب واستغل المشروع لنفسه حيث شهد الأهالي بأنه كان يقوم بتخريب شبكة المياه الموصلة اليهم حتى لا يمدهم بالمياه وأنه قد رفض تسليم المشروع وقام بغصبه واستغله لنفسه) فلم يقبل المتهم قليل الحياء بالحكم الابتدائي فقام باستئنافه كذلك قامت النيابة العامة باستئناف الحكم، إلا أن الشعبة الاستئنافية الجزائية رفضت الاستئنافين وقضت بتأييد الحكم الابتدائي، وقد ورد في أسباب الحكم الاستئنافي (أن النيابة عابت على الحكم الابتدائي في الجانب الجنائي القضاء بالتقادم لانها لم تتأمل التاريخ القديم لاستيلاء المتهم على المشروع لان المشروع انتقل الى المتهم بالاتفاق فيما بينه وبين سابقه حيث تنازل السلف عن المشروع الى المتهم عام 1998م وعليه حسبت المحكمة الابتدائية مدة التقادم من هذا التاريخ وبناء على قضت بعدم الحكم على المتهم في الحق العام نظراً إلى ان تاريخ رفع الدعوى على المتهم بعد اكثر من ثلاث سنوات) ، فلم يقنع المتهم بالحكم الاستئنافي فقام بالطعن فيه بالنقض، إلا أن الدائرة الجزائية رفضت الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي ، وقد ورد في أسباب حكم المحكمة العليا (اما من حيث الموضوع فأن الطعن عاب على الحكم الاستئنافي المؤيد للحكم الابتدائي أنه قد بني على اعتراف المتهم الطاعن لدى النيابة ولدى محكمة أول درجة في انه لم يعترف بالجريمة لان مافعله ليس جريمة، وبذلك فان نعي الطاعن قد بني على غير أساس صحيح من الشرع والقانون وتعين اطراحه وعدم الالتفات اليه) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :
الوجه الأول : احكام التقادم في قانون الاجراءات الجزائية وتوصيتنا :
وردت أحكام التقادم في هذا القانون في عدة نصوص قانونية منها ما ورد في المادة (19) التي نصت على أن (تسري القواعد الخاصة بالتقادم اذا كانت أصلح للمتهم على كل تقادم بدأ فيها ولم يكتمل) اما المادة (37) فقد قررت انقضاء الدعوى الجزائية بالتقادم مطلقاً حيث نصت هذه المادة على أن (ينقضي الحق في سماع الدعوى الجزائية بمضي المدة مالم ينص القانون على خلاف ذلك) اما المادة ( 38 ) عقوبات فقد حددت مدة التقادم حيث نصت على أن (ينقضي الحق في سماع الدعوى الجزائية في الجرائم الجسيمة بمضي عشر سنوات من يوم وقوع الجريمة فيما عدا الجرائم المعاقب عليها بالقصاص أو تكون الدية أو الأرش أحدى العقوبات المقررة لها، وفي الجرائم غير الجسيمة بمضي ثلاث سنوات من يوم وقوع الجريمة كل ذلك مالم ينقطع التقادم وفقاً للمادة (40) )ومن خلال استقراء النصين السابق ذكرهما نجد أنهما قد قررا خضوع كل الجرائم لأحكام التقادم ومدتها بما فيها جرائم المال العام ولم يتم استثناء الا جرائم القصاص والدية والأرش، ولذلك فاننا نوصي بأن يتم استثناء جرائم المال العام من الخضوع لاحكام التقادم وذلك في المادة (37) السابق ذكرها ،علماً بان كل القوانين في الدول المختلفة تقرر عدم خضوع الجرائم والمخالفات المالية لاحكام التقادم،ولايفيد ماورد في المادة (39)من قانون مكافحة الفساد التي نصت على ان (لاتسقط بالتقادم الاتي :_ا_الدعاوى المتعلقة بجرائم الفساد ._ب_ العقوبات المحكوم بها والمترتبة على جرائم الفساد ._ج_ دعاوى الاسترداد والتعويض المتعلقة بجرائم الفساد ) فقد كان الاواى ان يرد هذا النص في القانون العام وهو قانون الاجراءات الجزائية الذي نظم احكام تقادم الدعوى الجزائية.
الوجه الثاني : التكييف القانوني للجريمة التي تناولها الحكم محل تعليقنا وتوصيتنا :
قدمت النيابة العامة المتهم إلى المحاكمة الجزائية وطلبت محاكمته على أساس المادة (318) عقوبات لشان جريمة خيانة الامانة واعتباره مرتكباً لجريمة خيانة الأمانة حسبما ورد في قرار الاتهام، حيث نصت المادة (318) المشار اليها على أن (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات من ضم إلى ملكه مالاً منقولاً مملوكاً للغير سلم اليه بأي وجه) وقد تم تكييف القضية على هذا النحو لان الجاني ليس موظفاً عاماً فلو كان موظفاً عاماً لكانت الجريمة الاستيلاء على مال الدولة أو احدى الهيئات التابعة للدولة المقررة في المادة (162) عقوبات فقرة (2) التي نصت على أن (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سبع سنوات كل موظف عام -2- استغل وظيفته فاستولى بغير حق على مال للدولة أو ارتكب الفعل بنية التملك فأن كان يقصد استعمال المال ثم رده تكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد عن ثلاث سنوات) ومن خلال المقارنة بين النصين السابقين نجد أن القانون اراد حماية المال العام من الموظفين ولكنه نسى ان يحمي المال العام من غير الموظفين، علماً بان الوضع في اليمن له خصوصيته حيث يقدم الموظفون وغير الموظفين على الاستيلاء على الاموال العامة، فالواجب حماية المال العام من الموظفين وغير الموظفين، لان المال لعام يستحق الحماية الكافية والشاملة لتعلقه بمصالح واحتياجات الشعب، ومن خلال مطالعتنا لوقائع القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا نجد بأن المواطن قد استولى على مشروع ماء منطقة باسرها وحرمها من الحصول على الماء الضروري واستغل الماء في سقي القات وفي النهاية يتم التعامل مع هذه الجريمة على انها خيانة أمانة وانها قد تقادمت بمضي الوقت !!! لا حول ولا قوة إلا باالله.
الوجه الثالث : الجريمة المستمرة والتقادم :
من خلال مطالعة وقائع القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا نجد أن المواطن المتهم قد ضل معتدياً على مشروع الماء ومستولياً عليه حتى بعد صدور الحكم الابتدائي وضل مانعاً لتزويد المواطنين بالماء وبناءً على ذلك فأن افعال هذه الجريمة مستمرة ومتجددة كل يوم ومع ذلك قضى الحكم الابتدائي بان الجريمة قد تقادمت وسقطت بالتقادم، لان الاستيلاء على المشروع تم في 1998م وكأن الفعل الجرمي قد تم لمدة واحدة وفي يوم واحد !!! بالفعل أن القول بتقادم جرائم المال العام يعد جريمة في حد ذاته، والله اعلم.
![]() |
جريمة تقادم جرائم المال العام في اليمن. |