إثبات الحالة العقلية بالشهادة
أ.د/ عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون –
جامعة صنعاء
الحكم
القضائي يقوم على الظاهر ولا صلة أو علاقة ببواطن النفس وكوامنها ، فالقضاء يقوم
على الظاهر والله يتولى السرائر، والشهادة تقوم على الرؤية والمشاهدة للافعال
والتصرفات حقيقة بوضوح وجلاء، ولذلك فهي الوسيلة المعتبرة لإثبات الظاهر الذي يقوم
ويعتمد عليه الحكم، ومع أن بعض المسائل تكون باطنة لا تستطيع عيون الشهود النفاذ
إلى معرفة حقيقتها لكن هناك أفعال وأقوال للشخص تدل على مكنون نفسه وسلامة عقله، فهذه الافعال
والتصرفات والأقوال هي التي بامكان الشهود مشاهدتها ومعاينتها، ومن خلال هذه
الشهادات يستطيع القاضي الاستدلال بها على جنون المتهم أو عدمه، ولأهمية هذا
الموضوع ولكثرة وقوعه ولكثرة الخلاف والجدل الذي يثور بشأنه فقد اخترنا التعليق
على الحكم الصادر من الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ
3/5/2011م في الطعن الجزائي (40956) ك/14هـ وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا
الحكم أن رجلاً تعمد قتل أخر وكانت الجريمة مشهودة فلا خلاف بشأن وقوعها وإثبات
نسبتها للمتهم لذلك فقد حكمت محكمة أول درجة بإعدام المتهم قصاصاً ،فقام المتهم
باستئناف الحكم وأمام محكمة الاستئناف اثار محام المتهم مسألة جنون المتهم، حيث قامت الشعبة بإحالة المتهم
الى الطبيب المختص الذي افاد في تقريره
بأن المتهم مصاب بمرض نفسي، وبموجب ذلك قضى الحكم بسقوط القصاص للتقارير الطبية
التي تضمنت أن المتهم مصاب بمرض نفسي، فقام أولياء الدم بالطعن بالنقض في الحكم
الاستئنافي على أساس أن المتهم متمتع بكامل قواه العقلية قبل ارتكابه لواقعة القتل
وعندها وبعدها وأن هذا معلوم لكل من يعرف المتهم وهم كثيرون وأن محكمة الاستئناف
لم تستمع إلى أقوال الشهود الذين يزيد عددهم على عشرة واكتفت بالتقارير الطبية
المختلقة حتى أن المتهم لم يدع بالجنون أمام مأمور الضبط القضائي أو النيابة
العامة أو أمام محكمة أول درجة وإنما اشار عليه محاميه بالادعاء بالجنون أمام
محكمة الاستئناف، وقد قبلت الدائرة الطعن ونقضت الحكم الاستئنافي واعادت القضية
إلى الشعبة بتشكيل جديد للنظر في الاستئناف والاستماع إلى شهادات شهود أولياء
الدم، وبالفعل قامت الشعبة بتشكيل جديد بنظر القضية حيث استمعت الشعبة إلى شهود
أولياء الدم الذين زاد عددهم على ستة شهود شهدوا لله تعالى أن المتهم عاقل رشيدً
في أقواله وافعاله وتصرفاته وأنهم قد شاهدوا ذلك فلم يظهر لهم من خلال
ذلك أن المتهم مجنون سواء قبل القتل أو عنده أو بعد ذلك وأن المتهم قد
أختلف مع المجني عليه وكانت بينهما عداوة مستحكمة قبل واقعة القتل، وفي ضوء تلك
الشهادات المتواترة قضت الشعبة الجزائية بتأييد الحكم الابتدائي الذي قضى بإعدام
المتهم قصاصاً، واضافت الشعبة إلى أنه قد ثبت لها من خلال شهادات الشهود وملاحظات
هيئة المحكمة للمتهم في اثناء المحاكمة أنه غير مجنون، فلم يقبل المتهم بالحكم
الاستئنافي فقام بالطعن فيه بالنقض إلا أن الدائرة الجزائية رفضت الطعن وأقٌرت
الحكم الاستئنافي، وقد جاء ضمن أسباب حكم المحكمة العليا (اما من حيث الموضوع فقد
وجدت الدائرة أن ما اثاره الطاعن في غير محله من حيث الواقع والقانون خاصة فيما
يتعلق بدعواه الجنون حيث سبق للطاعن ومحاميه إثارة هذه الدعوى أكثر من مرة حيث
قامت محكمة الموضوع بالفصل فيها فصلاً
سائغاً على نحو ما تضمنه الحكم المطعون فيه، وحيث أن واقعة القتل العمد المسندة
للمتهم ثابتة ،وحيث أن الشعبة قد استمعت إلى شهود الإثبات بمن فيهم شهود إثبات
سلامة وصحة القدرةالعقلية للمتهم، وحيث أن الشعبة قد ناقشت ذلك تفصيلاً وسببت لذلك
تسبيبا سائغا لذلك ً فأن الدائرة تقر الحكم المطعون فيه) وسيكون تعليقنا على هذا
الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :
الوجه الأول : منزلة الشهادة في
إثبات الجنون ونفيه :
تصرفات
وافعال وأقوال الاشخاص مشاهدة ومعلومة لدى الوسط الذي يعيش فيه المتهم كالحارة أو
الحي أو جهة العمل أو الوسط الذي يخالطه المتهم، فتصرفات وافعال واقوال العقلاء
معلومة ومألوفة لدى هذا الوسط أو المجتمع الذي يعيش فيه المتهم كما أن أقوال
وافعال وتصرفات المجنون معروفة ومألوفة ظاهرة للمجتمع الذي يعيش فيه المجنون التي
يستدل بها الاشخاص الذي يستدل منها على جنون الشخص ، فالجنون كما يعرفه الفقه
الاسلامي آفة تصيب عقل الأنسان تجعله غير مدرك لأفعاله وتصرفاته وأقواله وغير مدرك
لنتائج هذه الأفعال والتصرفات، وتبعاً لذلك فأنه غير مسئول جزائياً، ولذلك فأن
شهادة الشهود في إثبات الجنون أو نفيه معتبرة من خلال أفعال وتصرفات الاشخاص
الظاهرة والمشاهدة التي تدل على جنون الشخص أو عدمه، ولذلك فأن منزلة ومرتبة
الشهادة في هذه الحالة اعلى من مرتبة التقارير الطبية التي تعد من قبيل القرائن.
الوجه الثاني : مرتبة التقارير
الطبية لإثبات الجنون :
تعتمد
التقارير الطبية في إثبات الجنون أو نفيه على ملاحظات طبيب الأمراض العقلية
والعصبية والنفسية الذي يعتمد على جلسات عدة يجريها مع الشخص المتهم بالإضافة إلى
بعض الفحوص ولكن ملاحظات الطبيب تمثل الجزء الغالب من تقريره، ومن خلال ذلك يستنتج
الطبيب في تقريره أن المتهم مصاب بمرض عقلي أو نفسي، وبالنسبة للمرض العقلي الذي
يعدم الارادة أو ينقصها فانه يكون ظاهراً ومشاهداً من قبل المجتمع المحيط بالمتهم
الذي يلاحظه ويشاهده لفترة طويلة، ولذلك فأن الشهادة في هذه الحالة أولى من
التقرير الطبي.
الوجه الثالث : إمكانية إثبات
الجنون بالشهود بخلاف المرض النفسي :
الجنون
تكون اعراضه ظاهرة مشاهدة قابلة للإثبات حيث أنها تدل على انعدام الارادة أو نقصها
،اما الأمراض النفسية فانها أنواع شتى قد لا يدركها المشاهد منها مجرد القلق
والاكتئاب والشك ...الخ ، ولذلك تكون في الغالب غير مشاهدة تحتاج إلى طبيب يسبر
اغوار نفس المريض فيشخص ويحدد نوع المرض ومسماه،فالمرض النفسي في الغالب لا يعدم
الارادة والتمييز الا اذا بلغ مرحلة تفقد المتهم القدرة على التمييز والادراك فيكون هذا المرض نوعا من الجنون،
ولذلك فأن المرض النفسي لا يعدم الارادة كما هو الحال بالمرض العقلي والجنون، إلا
أن بعض الامراض النفسية تصل الى مرحلة الجنون وهي تلك التي يكون من مظاهرها عدم
ادراك المصاب للأفعال والاقوال والتصرفات التي يباشرها، والله اعلم.
الأسعدي للطباعة ت /772877717