إثبات القصاص بشهادة المرأة والقرائن

 


إثبات القصاص بشهادة المرأة والقرائن

أ.د/ عبدالمؤمن شجاع الدين

الأستاذ بكلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

تشددت الشريعة الإسلامية في إثبات القصاص لعظم عقوبته وجسامتها وحفظ الدماء لتعذر تدراك القصاص بعد تنفيذه  حيث اشترطت شروطاً كثيرة لإثبات القصاص بالشهادة ويظهر ذلك في الشروط التي قررها الفقه الاسلامي في الشهود  والشهادة ومن ذلك شرط الذكورة في الشاهد على القصاص،كذلك ظل موقف الفقه الاسلامي ثابتا في منع اثبات القصاص بالقرائن  حتى القرائن حتى اواخر القرن التاسع عشر الميلادي عندما انتشر القتل وفلت الجناة من القصاص لصعوبة اثباته فعندئذ اجتهد الفقهاء في ذلك الوقت واجازوا اثبات القصاص بالقرائن وقد ظهر ذلك في تقنين مجلة الاحكام العدلية العثمانية وقد اخذ قانون الاثبات اليمني بذلك، وقد اشار إلى هذه المسائل المهمة الحكم الصادر عن الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا في جلستها المنعقدة بتاريخ 9/8/2017م في الطعن رقم (59485)وتتلخص وقائع القضية التي تناولها هذا الحكم ان النيابة العامة اتهمت شخصاً بقتل شخص آخر ولم يكن هناك من دليل على واقعة القتل إلا شهادة امرأة كانت في مسرح الجريمة شهدت بان المتهم قتل المجني عليه بينما كانت الادلة عبارة عن شهادات سماعية وقرائن بسيطة وأمام المحكمة الابتدائية تقدم اولياء دم المجني عليه بدعواهم مطالبين بإجراء القصاص من المتهم، وقد توصلت المحكمة الابتدائية إلى الحكم بإدانة المتهم بواقعة القتل العمد ومعاقبته بالحبس عشر سنوات تبدأ من تاريخ القبض عليه وإلزامه بدفع دية القتل العمد، وقد ورد ضمن أسباب الحكم الابتدائي (مع ثبوت واقعة القتل العمد بركنيها المادي والمعنوي حيال المتهم إلا أن الدليل الشرعي الموجب للحكم بالقصاص غير متوفر لان الشاهدة الوحيدة التي رأت الواقعة هي فلانة بنت فلان اما بقية الشهادات فهي مجرد قرائن لا ترقى إلى مرتبة الدليل الشرعي الذي يصح الركون عليه للحكم بالقصاص) وقد قضت محكمة الاستئناف بتأييد الحكم الابتدائي، فقام اولياء الدم والنيابة بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي غير ان الدائرة الجزائية بالمحكمة العليا رفضت الطعن وأقرت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب حكم المحكمة العليا (فقد وجدت الدائرة من خلال الرجوع إلى الأوراق ان الحكم الابتدائي المؤيد بالحكم الاستئنافي قد اقام قضاءه على أساس قانوني صحيح مستنداً إلى أحكام الفقرة الأخيرة من المادة (234) عقوبات حيث ورد في أسباب الحكم ان الدليل الشرعي الموجب للحكم بالقصاص غير متوفر لان الشاهدة فلانة بنت فلان هي شاهدة الرؤية الوحيدة اما ما تضمنته بقية الشهادات فهي مجرد قرائن لا ترقى إلى مرتبة الدليل الشرعي الذي يصح الركون عليه للحكم بالقصاص، وحيث لا تمتد رقابة المحكمة العليا إلى حقيقة الوقائع التي اقتنعت بثبوتها المحكمة مصدرة الحكم ولا إلى قيمة الادلة التي عولت عليها في الإثبات استناداً إلى أحكام المادة (431) إجراءات) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم حسب ماهو مبين في الأوجه الأتية :

الوجه الأول : شهادة المرأة في القصاص :

يهذب غالبية الفقه الإسلامي إلى عدم قبول شهادة المرأة في اثبات القصاص لان في شهادتها شبهة الضلال أي النسيان حسبما ورد في قوله تعالى (إن تضل احدهما فتذكر احدهما الاخرى) في حين يذهب احمد بن حنبل وابن حزم وابوبكر الاصم  إلى قبول شهادة المرأة في اثبات القصاص لان الشهادة تعتمد على الرؤية والمشاهدة بالعين فالمرأة لا تختلف عن الرجل في ذلك، وبهذا القول اخذ قانون الاثبات اليمني(1992) قبل تعديله (1996)الذي يقبل شهادة المرأة في القصاص حسبما هو مبين في المادة (45) إثبات التي نصت على أن (نصاب الشهادة حسبما يلي : 3- في جنايات النفس والاطراف رجلان اصلان أو رجل وامرأتان)وقد تم تعديل هذه المادة عام (1996) فصارت بعد التعديل (2-في سائر الحدود والقصاص رجلان)وعلى هذا الأساس فشهادة المرأة غير مقبولة لإثبات القصاص في قانون الاثبات النافذ ،ومن خلال دراستنا للحكم محل تعليقنا نجد انه لم يأخذ بشهادة المرأة لأنها كانت الشاهدة الوحيدة ولان قانون الاثبات النافذ قد صرح بان القصاص لايثبت  الا بشهادة رجلين فلايثبت بشهادة النساء ،ولذلك فقد قضى الحكم بان شهادة المراة قرينة لاترقى إلى مرتبة الدليل الموجب للقصاص،ومن وجهة نظرنا فان تعديل المادة 45اثبات عام 1696لم يكن موافقا فلم ينسجم مع السياسة العقابية  لمواجهة ظاهرة القتل المتزايدة في العصر الحاضر حيث يستغل الجناة صعوبة اثبات القصاص.

الوجه الثاني : وجوب رؤية الشاهد لواقعة القتل الموجب للقصاص :

اتفق الفقهاء على انه يشترط لإثبات القصاص ان يشاهد الشاهد نفسه فعل القتل واثره ونتيجته في القتيل، فلا تقبل في الفقه الإسلامي شهادة السماع والارعاء بان يشهد الشاهد انه سمع شخص آخر يقول : انه شاهد واقعة القتل، وهذا من الضمانات  التي تقررها الشريعة لعظم عقوبة القصاص وتعذر تداركها (التشريع الجنائي، أ.د.عبدالمؤمن شجاع الدين،صـ142) وقد ذهب القانون اليمني إلى هذه الوجهة حيث اشترط معاينة الشاهد لواقعة القتل المشهود عليها وفي الوقت ذاته منع القانون الارعاء في الشهادة لإثبات القصاص أي الشهادة على الشهادة، وفي هذا المعنى نصت المادة (27) إثبات على انه (يشترط في الشاهد ما يأتي :- ب- ان يكون قد عاين المشهود به بنفسه إلا فيما يثبت بالسمع واللمس ويستثنى أيضاً النسب والموت وأصل الوقف فانه يجوز إثباتها بالشهرة)  إضافة إلى ذلك فانه يظهر من صيغة المادة (37) إثبات عدم جواز قبول الارعاء في الشهادة لإثبات القصاص حيث تنص هذه المادة على أنه (يجوز في غير  الحد والقصاص ان يرعي الشاهد عدلين يقول لهما اشهدا على شهادتي اني اشهد بكذا فيكون الشاهد أصلاً وهما فرعان عنه ولا يصح الارعاء بشهادة واحد)، وقد رفض الحكم محل تعليقنا الشهادات بما فيها شهادة المرأة لأن شهادة المرأة غير مقبولة في  إثبات القصاص بموجب النص القانوني المعدل  كما رفض الحكم الشهادات الأخرى  لأنها عبارة عن أقوال لاشخاص لم يشاهدوا واقعة القتل، ولذلك فهي عبارة عن شهادات سماعية لايجوز اثبات القصاص بموجبها، فلا يتحقق بها الدليل الشرعي الموجب للقصاص.

الوجه الثالث : إثبات القصاص بالشهادة على اقرار القاتل :

في حالات كثيرة تصدر من القاتل أقوال تفيد اقراره بالقتل قبل وصول القضية على المحكمة كأن يذكر عند اسعافه للمجني عليه إلى المستشفى انه قتل الشخص الذي اسعفه او يذكر ذلك بعد الواقعة أو يذكر ذلك في محاضر جمع الاستدلالات ويتم في هذه الحالات  الاشهاد على أقوال المهم ففي هذه الحالات  استقر قضاء المحكمة العليا في اليمن على قبول الشهادة على اقرار المتهم بالقتل والحكم بالقصاص بمقتضاها حتى لو تراجع المتهم عن اعترافاته بعد ذلك لأن الاقرار بالقصاص قد تعلق به حق ادمي فلايصح الرجوع عنه، وفي القضية التي تناولها الحكم محل تعليقنا لم يصدر من المتهم أي اقرار من هذا النوع.

الوجه الرابع : إثبات القصاص بالقرائن :

اجاز قانون الإثبات اليمني اجاز إثبات القصاص بالقرائن شريطة ان تكون القرائن  قرائن قاطعة حيث نصت المادة (155) إثبات على ان (القرائن وهي ماياتي : -ب- قرائن قاطعة قضائية وهي ما تستنبطه المحكمة من الأمور الواقعية والمقالية التي تدل على صور الحال كخروج شخص من داره في يده سكين تقطر دماً أو مسدس أو بندقية مع وجود قتيل في تلك الدار ليس بها غيره) وفي تعديل قانون الاثبات عام 1996م فامثلة القرائن القاطعة المذكورة في هذا النص تدل على جواز إثبات القصاص بالقرائن شريطة ان تكون قاطعة في دلالتها كالأمثلة الواردة في هذا النص، والأصل التاريخي لما ورد في هذا النص هو ما ورد في مجلة الأحكام العدلية العثمانية  فالنص السابق الوارد في قانون الاثبات اليمني مماثل تماماً لما ورد في مجلة الأحكام العدلية، فعند اعداد مجلة الأحكام العدلية العثمانية دار في العالم الإسلامي باسره جدل واسع بشأن شرعية إثبات القصاص بالقرائن لان الفقه الإسلامي متفق الحاق القصاص بالحدود فيما يتعلق بتطبيق قاعدة (ادروا الحدود بالشبهات ما استطعتم) لان هذه القاعدة التي اصلها حديث للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قاعدة فقهية وليس قاعدة نصية حيث الحق الفقهاء القصاص بالحدود فيما يتعلق بعدم جواز اثباته بالقرائن لذلك لم يقبل الفقه الإسلامي إثبات الحدود أو القصاص بالقرائن لانها مجرد شبهات يدراء بها القصاص ولا يثبت، غير انه في اواخر عصر الدولة العثمانية زاد القتل وانتشر وتساهل الناس فيه لتعذر إثباته بالشهادة والاقرار ولذلك تداعى الفقهاء حيث افتوا بجواز إثبات القصاص بالقرائن طالما أن إلحاق القصاص بالحدود من حيث الإثبات بالقرائن قد كان عملا اجتهادياً من الفقهاء المتقدمين (أصول النظام الجنائي الإسلامي، د.محمد سليم العوا، صـ94) وخلاصة القول ان الحكم محل تعليقنا قد صرح بان شهادة المرأة الواحدة مجرد قرينة بسيطة وليست قاطعة وان ما ورد في اقوال الاشخاص الذين لم يشاهدوا واقعة القتل او يشهدوا على اقرار المتهم مجرد قرائن بسيطة ،وفي الوقت ذاته صرح الحكم بان تلك القرائن جميعا  لا ترقى إلى الدليل الشرعي المعتبر لإثبات القصاص، والله اعلم. 




الاسعدي للطباعة ت : 772877717