احترام حكم التحكيم للنظام العام في قانون المرافعات
أ.د عبد المؤمن شجاع الدين
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون –
جامعة صنعاء
التحكيم
وسيلة استثنائية للفصل في الخصومات يكون
المحكم بموجبها طليقاً في بعض الإجراءات التي تقتضيها طبيعة التحكيم وبحسب
الاجراءات التي يتفق عليها اطراف التحكيم في وثيقة التحكيم وبحسب النصوص الواردة في قانون التحكيم حيث يمنح المحكم بعض الاستثناءات، ولكن
خصوصية التحكيم لا ينبغي ان تصل إلى المساس بفكرة النظام العام وهي تلك الفكرة
النبيلة السامية التي تهدف القوانين
جميعها للحفاظ عليها والدفاع عنها لارتباطها بالحقوق والمصالح العامة لجميع افراد
المجتمع، وتنتشر فكرة النظام العام في القوانين كافة بنسب متفاوتة ولذلك كانت
النسبية خاصية من خواص النظام العام، ولا شك ان قانون المرافعات قد حدد نطاق
النظام العام في مسائل التقاضي التي يجب الالتزام بها باعتبارها ضمانات من أهم
ضمانات المحاكمة العادلة،ولذلك ينبغي على المحكم الإلتزام بها عند فصله في الخصومة التحكيمية ، وعلى هذا الاساس فقد
اخترنا التعليق على الحكم الصادر عن الدائرة المدنية بالمحكمة العليا في جلستها
المنعقدة بتاريخ 21/11/2016م في الطعن رقم (58325) ،وتتلخص وقائع القضية التي
تناولها هذا الحكم ان طرفين احتكما لدى المحكم المختار من قبلهما، وبعد ان تقدم
احد الطرفين بدعواه لدى المحكم تقدم الطرف الاخر بدفع بعدم سماع الدعوى لتقدم ما
يكذبها محضاً ،إلا أن المحكم لم يفصل بذلك الدفع بداية واستقلالا حيث قام المحكم لاحقاً بالنطق بالحكم فقام
الدافع برفع دعوى بطلان حكم التحكيم لعدم قيام المحكم بالفصل في الدفع المشار اليه
بداية واستقلالا، وقد توصلت الشعبة المدنية الى الحكم بقبول دعوى البطلان وبطلان
حكم التحكيم، فقام المدعى عليه بدعوى البطلان بالطعن بالنقض في الحكم الاستئنافي،
إلا أن الدائرة المدنية رفضت الطعن وأقٌرت الحكم الاستئنافي، وقد ورد ضمن أسباب
حكم المحكمة العليا (والدائرة بعد الرجوع إلى الأوراق مشتملات الملف فقد وجدت ان
الطاعن ينعي على الحكم المطعون فيه أنه قد خالف القانون بقبوله دعوى البطلان وبطلان
حكم التحكيم بالرغم من ان دعوى البطلان لم تتوفر فيها أية حالة من حالات البطلان
المنصوص عليها في المادة (53) تحكيم وان الحكم المطعون فيه قد اختلق سبباً للبطلان
من تلقاء ذاته وهو عدم قيام المحكم بالفصل في الدفع بعدم جواز نظر الدعوى لسبق ما
يكذبها محضاً مع ان هذا الدفع من الدفوع الموضوعية، والدائرة تجد أن هذا النعي في
غير محله لان المادة (32) تحكيم أوجبت على المحكم مراعاة قانون التحكيم وعدم
الاخلال بأحكام قانون المرافعات التي تعتبر من النظام العام، فقد كان الثابت من
المادة (186) مرافعات ان الدفع بعدم سماع الدعوى لتقدم ما يكذبها محضاً هو من
الدفوع المتعلقة بالنظام العام مما يستوجب على المحكمة ان تقضي به من تلقاء ذاتها
بحكم مستقل وقبل الفصل في الموضوع، وقد اجازت المادة (55) تحكيم لمحكمة الاستئناف
ان تحكم ببطلان حكم التحكيم حتى ولو لم يطلب منها ذلك اذا تضمن الحكم ما يخالف
أحكام الشريعة الإسلامية والنظام العام ،فقد كان من الواجب على المحكم الفصل في
الدفع المشار اليه وفقاً لأحكام قانون المرافعات التي تعتبر من النظام العام حسبما
نصت عليه المادة (32) من قانون التحكيم، ولما كانت محكمة الاستئناف تعتبر محكمة قانون عند نظر دعوى بطلان حكم
التحكيم حيث تقتصر وظيفتها في مراقبة حكم التحكيم ومدى تطبيقه للقانون أو خروجه
عنه فإن وجدت ان حكم التحكيم يتفق مع حكم القانون قضت برفض دعوى البطلان مالم
فإنها تقضي بقبول دعوى البطلان وبطلان حكم التحكيم) وسيكون تعليقنا على هذا الحكم
حسب ماهو مبين في الأوجه الاتية :
الوجه الأول : التزام المحكم بمراعاة النظام العام في قانون المرافعات
الزمت المادة (32)
تحكيم الزمت المحكم باحترام النظام العام المقرر في قانون المرافعات حيث نصت هذه
المادة على أنه (يحق لطرفي التحكيم ان يتفقا على الإجراءات التي يتعين على لجنة
التحكيم اتباعها فاذا لم يوجد أي اتفاق فانه يجوز للجنة ان تتبع ما تراه ملائماً
من الإجراءات مع ضرورة مراعاة أحكام هذا القانون وعدم الاخلال بأحكام قانون
المرافعات التي تعتبر من النظام العام) ومن استقراء هذا النص يظهر أنه اجاز لأطراف
التحكيم ان يتفقوا على الإجراءات التي يجب على هيئة التحكيم اتباعها كما أن هذا
النص قد اطلق العنان المحكم في إتباع الاجراءات التي يراها مناسبة ، إلا أن هذا النص قد قرر في الوقت
ذاته عدم جواز اتفاق الاطراف أو اخلال
المحكمين في اثناء إجراءات فصلهم في القضية بأحكام قانون المرافعات التي تعتبر من
النظام العام، وهذا النص يعني ان قانون المرافعات يتضمن نصوصا تعد من النظام العام
ونصوصا أخرى لا تكون كذلك، وبناء على ذلك يجوز لأطراف
التحكيم ان يتفقوا على الإجراءات التي تخالف نصوص قانون المرافعات متى ما كانت هذه
النصوص من النظام العام غير انه لا يجوز لأطراف التحكيم أو هيئة التحكيم مخالفة
نصوص قانون المرافعات التي تعد من النظام العام،مثلما قضى الحكم محل تعليقنا بان
نصوص قانون المرافعات تعد من النظام العام اذا قرر قانون المرافعات ذاته اعتبارها
كذلك أي صرح بانها من النظام العام
،وتبعاً لذلك فقد قضى الحكم محل تعليقنابان الدفع بعدم سماع الدعوى لتقدم
مايكذبها من النظام العام حسبما ورد في
المادة (186) مرافعات، لان المواد المتعلقة بالنظام العام في قانون المرافعات هي
تلك المواد التي قرر قانون المرافعات ذاته انها من النظام العام، والتزام المحكم
بنصوص قانون المرافعات ذات الصلة بالنظام العام يتأسس على فكرة وجوب توفر الحد
الادنى من ضمانات المحاكمة العادلة عند قيام هيئة التحكيم بالفصل في الخصومة
التحكيمية، لأن قانون التحكيم منح المحكم المرونة اللازمة في إجراءات النظر والفصل في الخصومة التحكيمية شريطة ان لا
تخل هذه المرونة بضمانات المحاكمة العادلة المتمثلة في النصوص المتعلقة بالنظام
العام الواردة في قانون المرافعات التي يجب المحكم احترامها والالتزام بها والعمل
بمقتضاها.
الوجه الثاني: جزاء مخالفة المحكم للنصوص المتعلقة بالنظام في قانون المرافعات
من خلال مطالعة الحكم
محل تعليقنا نجد أنه قد قضى ببطلان حكم التحكيم المخالف للنظام العام المقرر في
قانون المرافعات، ومن خلال هذا التطبيق القضائي يظهر أن جزاء مخالفة حكم التحكيم
للنظام العام هو البطلان، لان المخالفة للنظام العام في هذه الحالة تخل بضمانات
المحاكمة العادلة التي يجب الالتزام بها سواء من قبل هيئات القضاء او هيئات
التحكيم، ولان بطلان حكم التحكيم المخالف للنظام العام على هذا النحو فانه يجب على
المحكمة التي تنظر القضية ان تتصدى له من تلقاء ذاتها ويحق التمسك به في أي مرحلة
من مراحل التقاضي حسبما ورد في الحكم محل
تعليقنا، واذا كان الدفع المقدم أمام هيئة التحكيم متعلقاً بالنظام العام فانه يجب
الفصل فيه بداية وبحكم مستقل حسبما نصت عليه المادة (185) مرافعات، ولذلك فقد قضى
الحكم محل تعليقنا ببطلان حكم التحكيم لأنه لم يفصل في الدفع بعدم سماع الدعوى
لتقدم ما يكذبها وذلك قبل الفصل بالقضية التي كان ينظرها المحكم وبحكم مستقل، لان
هذه الإجراءات من النظام العام حسبما قرر قانون المرافعات.
الوجه الثالث: النظام العام في قانون المرافعات الذي يجب على المحكم الالتزام به والنظام العام في قانون التحكيم الذي يجب على المحكم عدم قبوله
تقرر المادة (32) تحكيم على وجوب التزام المحكمة بنصوص قانون المرافعات التي يصرح ذلك القانون بانها من النظام العام حسبما سبق بيانه، إضافة الى ماسبق وفي الاتجاه ذاته فان المادة 55تحكيم قد نصت على أن مخالفة حكم المحكم للنظام العام حالة من حالات بطلان حكم المحكم أينما ورد النص على النظام العام، ومن ناحية اخرى تنص المادة (5) تحكيم على أنه (لا يجوز التحكيم فيما يأتي : -هـ- كل ما يتعلق بالنظام العام) فالمقصود بالنظام العام في المادة (5) هو منع اطراف التحكيم ومنع المحكمين من تحرير وثائق تحكيم أو قبولها اذا كان موضوع التحكيم أو محل الخلاف من النظام العام حيث يجب على اطراف التحكيم والمحكمين في أن واحد التأكد مما اذا كان محل التحكيم أو موضوعه يتضمن أمرا أو شيئا مخالفا مخالف النظام العام أي مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية أو النصوص الصريحة في القانون التي يعتبرها القانون من النظام العام أو مخلة بالآداب العامة، فالنظام العام في المادة (5) سابق لاجراءات التحكيم يهدف إلى الحيلولة دون التحكيم ابتداء في مسائل مخالفة للنظام العام ، في حين ان النظام العام في المادة (و55و32) يعني الزام المحكم بإجراءات معينة قدر القانون انها ضمانات للحد الادنى من المحاكمة العادلة، والله اعلم.
الأسعدي للطباعة ت /772877717